مقتلة بني قريظة: بين دراية القرآن... ورواية المؤرخين (2)

مصطفى محمود 

تُعدّ حادثة بني قريظة من أكثر الأحداث التاريخية التي أثارت جدلاً في دراسة السيرة النبوية، خصوصاً في ظل الروايات التي تزعم أنّ النبي ﷺ أمر بقتل جميع رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم. هذه الروايات وُظفت لاحقًا من قِبل خصوم الإسلام لتصويره ديناً عنيفاً (انظر: ابن إسحاق، السيرة النبوية؛ الواقدي، المغازي). غير أنّ القرآن الكريم – المصدر الأول للمسلمين – لم يشر من قريب أو بعيد إلى وقوع مذبحة جماعية بحق يهود بني قريظة، بل اكتفى بالإشارة إلى هزيمتهم وانكسارهم ونقضهم العهد (سورة الأحزاب، الآية 26).

التحقيق في صحة هذه المرويات يُظهر أنها ارتبطت أساساً برواية واحدة مصدرها عكرمة عن ابن عباس، ورُويت لاحقًا بسلاسل متأخرة نسبيًا (انظر: ابن هشام، السيرة، ج2، ص 242). النقد الحديث لهذه الروايات يبرز إشكالات في السند والمتن، إذ يلاحظ أنّ روايات القتل الجماعي ظهرت في سياق الصراع السياسي في العصور الأموية والعباسية، حيث جرى استدعاء صورة "الحسم الكامل" كأداة أيديولوجية لتبرير العنف السياسي (انظر: شاخت، أصول الفقه الإسلامي؛ موتسكي، دراسات في حديث النبي).

من زاوية سياق الحدث التاريخي، تشير الوقائع إلى أنّ بني قريظة كانوا حلفاء للمسلمين قبل أن ينقضوا العهد أثناء حصار الأحزاب، وهو ما اعتُبر خيانة عسكرية في زمن حرب. لكن الشواهد الأثرية والتاريخية لا تدعم فكرة قتل جميع رجال القبيلة دفعة واحدة. بل هناك ما يدل على أنّ العقوبات استهدفت قيادات محددة متورطة مباشرة في الخيانة (انظر: الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد).

دراسة هذه الحادثة باستخدام مناهج البحث النقدي، خصوصاً علم نقد الرواية التاريخية، تكشف أنّ الحكاية الشائعة أقرب إلى البناء الأدبي اللاحق منها إلى التقرير التاريخي الدقيق. حتى المستشرقين المنصفين مثل وليم مونتغومري وات أشاروا إلى أنّ تصوير الحادثة كمذبحة شاملة يعكس مبالغات كتاب السيرة الأوائل (Muhammad at Medina).

خاتمة: أهمية مناهج البحث النقدي في دراسة مقتلة بني قريظة

تُبرز دراسة حادثة بني قريظة بعيون منهجية نقدية حديثة ضرورة إعادة قراءة المصادر التاريخية بمنهجية دقيقة تعتمد على مقارنة النصوص، وفحص الأسانيد، وتحليل السياقات الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالأحداث. علم نقد الرواية التاريخية يُمكّن الباحث من التمييز بين الروايات التي قد تكون محرفة أو مبالغًا فيها، وبين تلك التي تحمل دلالات موثوقة. كذلك، فإن علم التاريخ الاجتماعي يضيء على الظروف المحيطة بجماعة بني قريظة وعلاقاتها السياسية والدينية مع يثرب (المدينة)، مما يعزز فهم أعمق للوقائع بعيدًا عن الاستقطاب المذهبي أو السياسي.

إنّ اعتماد هذه المناهج لا يُسهم فقط في تنقية السرد التاريخي بل يُعيد أيضًا بناء الصورة الحقيقية للأحداث بما يدعم الموضوعية العلمية، ويصون الشخصيات التاريخية من التشويه غير المبرر، خاصة في سياق بحثٍ يهدف إلى فهم جوهر الدين الإسلامي وتاريخه دون تزوير أو تحامل.

*من صفحته على الفيسبوك