"سفينة تجسس روسية" تثير مخاوف الأوروبيين بعد ملاحقتها في المياه الإقليمية البريطانية
سفينة تابعة للبحرية الملكية تقوم بدورية قرب السفينة الروسية يانتار (يسار) في المياه البريطانية، نوفمبر/تشرين الثاني 2024. © ستوديو غرافيك فرانس ميديا موند.
صعدت بريطانيا لهجتها حيال روسيا على خلفية تواجد سفينتها "يانتار" الأسبوع الماضي في مياهها الإقليمية للمرة الثانية خلال بضعة أشهر. واعتبرت لندن أن هذه السفينة تقوم "بعمليات تجسس وجمع معلومات استخباراتية ورسم خرائط للبنية التحتية الحيوية تحت الماء". وهذه ليست أول مرة تثير "يانتار" قلق الأوروبيين والدول الغربية بشكل عام.
عادت قضية السفينة الروسية "يانتار" المتهمة بتنفيذ عمليات تجسس ومراقبة استخباراتية لتطفو على السطح مجددا، وهي لا تزال أصلا تثير قلق العديد من الدول الأوروبية خصوصا بعد ظهورها في بحر المانش.
فقبل أسبوع، أعلنت لندن رصدها في مياهها وقالت وزارة الدفاع البريطانية في بيان إن "سفينة التجسس الروسية هذه تم تعقبها من قبل البحرية الملكية لضمان أمن المملكة المتحدة".
كما صرح وزير الدفاع البريطاني جون هيلي الأربعاء بالبرلمان بأن البحرية الملكية تلاحق تحركات "سفينة تجسس روسية" عبرت المياه البريطانية في بحر المانش، موجها تحذيرا إلى روسيا بالقول: "نعرف ما تفعلون".
لندن لموسكو: "نراكم، نعرف ما تفعلون"
أوضح هيلي أن "سفينة يانتار هي حاليا في بحر الشمال بعدما عبرت المياه البريطانية"، مؤكدا: "إنها سفينة تجسس روسية تستخدم لجمع معلومات ومسح البنى التحتية الأساسية للمملكة المتحدة في قاع البحر".
وتابع المسؤول العسكري البريطاني: "أريد أيضا أن يسمع الرئيس (الروسي فلاديمير) بوتين هذه الرسالة: نراكم، نعرف ما تفعلون، ولن نتردد في القيام بتحرك قوي لحماية هذه البلاد"، حسبما أفادت وكالة الأنباء الفرنسية.
كذلك، لفتت لندن إلى أن هذه السفينة رصدت بالفعل فوق كابلات بحرية بالمياه البريطانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وفيما رفض الكرملين الإدلاء بأي تعليق رسمي بشأن "يانتار"، نفت السفارة الروسية في لندن "الاتهامات التي وجهتها مؤسسة الدفاع البريطانية"، مؤكدة أن "مثل هذه التهديدات لم تصدر أبدا من روسيا".
روسيا: "يانتار" سفينة لعلوم المحيطات
رسميا، تقول روسيا إن "يانتار" هي سفينة لعلوم المحيطات تُستخدم لإجراء الأبحاث العلمية في عرض البحار وهي مكلفة من وزارة الدفاع الروسية ومنفصلة عن أسطولها البحري.
لكن حسب القائد السابق للمدرسة البحرية الفرنسية ميشال أولهاغاراي، فذلك التعريف الروسي مجرد "غطاء"، إذ قال: "هذا لا يخدع أحدا على الإطلاق. فجميع السفن الروسية تقريبا تتمتع بقدرات كهرومغناطيسية. يانتار هي سفينة تنصت وتجسس".
ووفقا لتقرير إذاعة فرنسا الدولية، فهذه السفينة تابعة لـ"المديرية الرئيسية لأبحاث أعماق البحار" المعروفة بالاختصار الروسي GUGI. يشبّه تقرير آر آف إيه RFI "يانتار" بأنها مثل جهاز "كي جي بي (الاستخبارات السوفياتية سابقا)" للبحار، معتبرا أنها تمثل في الواقع وكالة أبحاث روسية سرية تحت المياه "تقوم بمهام تجسس وتخريب، وخاصة للكابلات البحرية".
قرب كابل الاتصالات البحري "أتلنتيك كروسينغ 1"
السفينة الروسية مجهزة بمجموعة كاملة من المعدات. فوفقا لمعلومات حصلت عليها فرانس24، على متن "يانتار" روبوتات ومسيّرات بحرية تعمل تحت الماء، إضافة إلى حوض سباحة داخلي لتخزين أجهزتها بشكل سري، وهي قادرة على العمل على عمق قد يصل إلى 7000 متر تحت الماء. كما تتوفر "يانتار" على معدات مرئية على الصواري، بما في ذلك هوائي موجود في الجزء الخلفي من السفينة، يمكن له التنصت على كافة اتصالات الهاتف المحمول في محيط عدة كيلومترات.
في 2014، تم تدشين هذه السفينة التي يحرص على متابعتها باهتمام ومنذ سنوات إتش آي ساتون المحلل المستقل لشؤون الدفاع. قام هذا الأخير بعرض صور للقطع المتعددة من المعدات المرئية على متن السفينة "يانتار" في موقعه على الإنترنت.
يصف هذا الباحث "يانتار" على أنها "سفينة أم (للإمداد، كما تقود أو تنقل سفنا أصغر حجما) خاصة وفريدة من نوعها". وبالنسبة لخلفيات تواجدها في المياه البريطانية قبل أسبوع، يقول إتش آي ساتون وفق تصريحات نقلتها قناة يورونيوز: "أعتقد أن يانتار كانت في مهمة لتنفيذ عمليات غوص لا تتطلب التخفي بشكل كبير من الغواصات، حيث تكون قادرة على تحقيق ذلك بتكلفة أقل."
أداة لرسم خريطة قاع البحر؟
وأفادت نفس القناة بأن السفينة الروسية "مزودة بأجهزة استشعار إلكترونية لرسم خريطة قاع البحر، وقبة للاتصالات، ما يشير إلى أنها تستخدم على الأرجح لرسم خريطة لشبكة خطوط الأنابيب والكابلات الحيوية التي تربط الدول الغربية".
في ضوء ذلك، يبدو أن المياه البريطانية تمثل هدفا استراتيجيا بالنسبة للسفينة الروسية، نظرا لوجود عدة كابلات بحرية تربط المملكة المتحدة بالولايات المتحدة من جهة، وبالقارة الأوروبية من جهة أخرى.
في هذا السياق، يوضح ميشال أولهاغاراي: "البنية التحتية الأساسية تحت الماء معروفة. حيث تمر قرابة 80 وحتى 90 بالمئة من تبادلات الاتصالات، الاستخبارات وكذلك التدفقات المالية عبر هذه الكابلات".
وبحسب معلوماتنا، تملك "يانتار" قدرة التجسس ليس على كابلات الاتصالات البحرية فحسب، بل وحتى على البنية التحتية لنقل الطاقة، أي كابلات الطاقة، وخطوط أنابيب النفط، ناهيك عن خطوط أنابيب الغاز تحت الماء.
وبالنسبة لأسباب تواجدها في المياه البريطانية، أفادت القناة التلفزيونية الأوروبية (يورونيوز) في نفس التقرير بأن عبورها المانش يجعلها أقرب إلى خط أتلنتيك كروسينغ 1 Atlantic Crossing 1 وهو كابل اتصالات تحت البحر يربط الولايات المتحدة بالمملكة المتحدة، وكذلك بكل من هولندا وألمانيا.
روسيا "محاصرة في قواعدها"
ولعل الانتشار الكبير للقوات البحرية البريطانية الأسبوع الماضي مرده مخاوف من عمليات للسفينة "يانتار" في قناة المانش. في هذا الإطار، لاحقت السفينتان التابعتان للبحرية الملكية البريطانية HMS Somerset وكذلك HMS Tyne السفينة الروسية. لكن اللافت في هذه الحادثة البحرية، هو السماح لغواصة بريطانية بالصعود إلى السطح على مقربة من السفينة "يانتار".
ولا يبدو أن عيون "يانتار" التي تبحر في المياه الأوروبية منذ أشهر، كانت مصوّبة نحو بريطانيا فقط. فقبل رصدها في القناة الإنكليزية، سبق وأن تم الكشف عن إبحارها خلال الأسابيع الأخيرة في أماكن عدة بالبحر الأبيض المتوسط. وحسب معلوماتنا، كانت السفينة الروسية تقوم بجمع معلومات عن أهداف محددة من البنى التحتية الاستراتيجية الأوروبية، بما فيها الإسبانية والفرنسية والإيطالية والقبرصية واليونانية.
ورُصدت "يانتار" بشكل خاص في قناة صقلية وقرب مضيق جبل طارق، حيث لاحقتها عن كثب سفن إسبانية وأمريكية.
كما تم تأكيد مرور السفينة الروسية بجنوب سردينيا في 9 يناير/كانون الثاني. وهو ما لم يمر بسلام، حيث أفاد مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى لإذاعة فرنسا الدولية، عن انبعاث مفاجئ للدخان على بعد مسافة قريبة من مقدمة "يانتار"، ما أجبرها على مغادرة المنطقة. تزامن ذلك الحادث، مع مناورات نفذتها طائرات حربية تابعة لحلف شمال الأطلسي كانت تحلق في محيط السفينة الروسية.
وسائل عسكرية فرنسية لمتابعة تحركات السفينة الروسية
خلصت آر أف إيه RFI إلى أن كل هذا التواجد العسكري في هذه المنطقة ما هو سوى دليل على "مناورة ترهيبية هدفها إجبار يانتار على وقف المسوحات" التي يرجح أنها كانت تقوم بها هناك.
وفي فرنسا، أفادت إدارة البحرية لبحر المانش وبحر الشمال عن حشد "الوسائل العسكرية الفرنسية" لمتابعة تحركات السفينة الروسية، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها "لم تبد نوايا معادية". وقالت الإدارة لوكالة الأنباء الفرنسية الأربعاء: "يحدث بانتظام أن تعبر سفينة روسية، وتجري دائما مراقبة حثيثة باستخدام وسائل لفرض الأمن".
من جهة أخرى، قالت السلطات الروسية إن السفينة "يانتار" زارت خلال عبورها البحر الأبيض المتوسط، موقعا قبالة السواحل الإسبانية كان قد شهد حادث غرق سفينة الشحن الروسية "إم في أورسا ميجور" في 23 ديسمبر/كانون الأول. وأضاف نفس المصدر أن "يانتار" كانت مكلفة بفحص حطام السفينة التي تعرضت لـ"عمل إرهابي" وفقا لها.
يفسّر ميشال أولهاغاراي تواجد "يانتار" في المياه الأوروبية من وجهة نظر الوضع الإقليمي المتبدل والذي بات لغير صالح موسكو. ويقول نائب الأدميرال إن روسيا "أصبحت عدوانية وفي مواجهة مع معظم العالم الغربي في آن، لأنها محاصرة داخل قواعدها في مورمانسك (أقصى شمال روسيا قرب فنلندا)، سواء في قاع بحر البلطيق أو في الشمال، حيث تم دفعها في الآونة الأخيرة خارج طرطوس بسوريا".
ويخلص أولهاغاراي بالقول إن "وجود وحدات متحركة في البحر الأبيض المتوسط مثل هذه السفينة (يانتار)، أصبح ضروريا للغاية بالنسبة لموسكو منذ اللحظة التي خسرت فيها قواعدها البرية التي كانت تسمح لها بالتنصت بفضل منشآت أكبر بكثير وأكثر كفاءة". يضيف نائب الأدميرال والقائد السابق للمدرسة البحرية الفرنسية: "هي في حاجة لجمع المعلومات الاستخباراتية حول تطورات المعدات الغربية، لكن أيضا حول المنظمات، معلومات تعبر من خلال المراسلات التي يمكن لها اعتراضها".
تجدر الإشارة إلى أن عدة كابلات بحرية للاتصالات وأخرى للكهرباء قد تعرضت لأضرار خلال الأشهر الأخيرة في بحر البلطيق. ويشتبه مسؤولون أوروبيون وخبراء في أنها تندرج في إطار "حرب هجينة" تخطط لها روسيا.