تخطت الحدود المحلية.. كيف استطاع "داعش" بناء شبكة نفوذ من قلب جبال الصومال الوعرة؟

من قلب جبال غوليس الوعرة في شمال الصومال، نجح تنظيم "داعش" في بناء شبكة نفوذ تتخطى الحدود المحلية.

فمن مجرد فصيل منشق عن "حركة الشباب" الموالية للقاعدة، تحول الفرع الصومالي إلى قوة متنامية في شبكة التنظيم العالمية، مُشكلا تهديدا متصاعداً على المستويين الإقليمي والدولي.

هذا التحول في قدرات التنظيم، وتوسع نفوذه، انعكس على تصعيد الجهود العسكرية لمواجهته، إذ شنت القوات الأميركية غارات جوية استهدفت معاقله في شمال الصومال، مما أسفر عن مقتل "قيادات رئيسية" في التنظيم، وفق ما أعلنته حكومة إقليم بونتلاند، الأحد.

وأكد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب تنفيذ الضربات في وقت متأخر مساء السبت، موضحا أنها استهدفت "كبير مخططي هجمات داعش وإرهابيين آخرين"، مضيفا أن العملية أدت إلى تدمير المغارات التي كان يستخدمها التنظيم كمأوى.

من جانبه، قال وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، إن التقييم الأولي يشير إلى مقتل عدد من العناصر في الضربات التي نُفذت بواسطة طائرات مسيرة، مؤكدا عدم وقوع إصابات في صفوف المدنيين.

وأضاف أن هذه العملية ستحد من قدرة التنظيم على التخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية تستهدف المواطنين الأميركية.

ورحبت حكومة بونتلاند، التي تتمتع بحكم شبه ذاتي في شمال الصومال، بالغارات واصفة المشاركة الأميركية بأنها "لا تقدر بثمن"، مشيرة إلى أن العملية تمثل تقدما كبيراً في عملياتها العسكرية ضد التنظيم.

كما أكدت الحكومة الصومالية في مقديشو، أن العملية تمت "بتنسيق مشترك" مع واشنطن، فيما عبر الرئيس حسن شيخ محمود عن "امتنانه العميق" للولايات المتحدة، مؤكدا أن "الإرهاب لن يجد أصدقاء، ولا مكان يسميه وطناً في ولاية بونتلاند وفي الصومال بأكمله".

وتأتي هذه العملية العسكرية في وقت يزداد فيه القلق من تنامي دور تنظيم داعش في الصومال، وهو رغم محدودية حجمه، إلا أنه نجح في تطوير قدراته وتوسيع نفوذه.

فمنذ نشأته عام 2015 على يد عبد القادر مؤمن، استطاع التنظيم بناء شبكة مالية قوية وتأسيس حضور استراتيجي في جبال شمال البلاد، ليتحول إلى "لاعب مهم" في شبكة داعش العالمية، وفق ما يؤكد خبراء، وتقارير دولية حديثة.
الحضور والخطر

يبقى حضور تنظيم "داعش" محدودا نسبيا في الصومال مقارنة بحركة الشباب المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة، لكن الأمم المتحدة، حذّرت هذا العام، من تزايد نشاط مجموعات تابعة لداعش في البلاد.

ونشأ التنظيم عام 2015، عقب انشقاق مؤسسه وزعيمه، عبد القادر مؤمن، ومجموعة صغيرة عن "حركة الشباب"، وإعلانهم مبايعة داعش.

واليوم، يضم التنظيم حوالي 500 مسلح، نصفهم من الأجانب، يتمركزون في جبال غوليس وكال مسكات في إقليم باري ببونتلاند.

ورغم أن غالبية المسلحيم الأجانب ينحدرون من دول شرق أفريقيا مثل إثيوبيا وكينيا وتنزانيا، إلا أن بينهم أيضا عناصر من خارج القارة، ومن دول عربية، خاصة اليمن.

ويتبنى "داعش-الصومال" التفسير المتشدد للشريعة الإسلامية الذي يتبناه داعش، ويهدف إلى توسيع ما يسمى بالخلافة المزعومة في أفريقيا.

ويستخدم في عملياته الأسلحة الصغيرة والعبوات الناسفة لشن هجمات متقطعة وعمليات اغتيال ضد المسؤولين الحكوميين الصوماليين وقوات الأمن، والمدنيين المرتبطين بالحكومة.

كما يواجه أيضا، قوات أمن إقليم بونتلاند، وقوات حفظ السلام التابعة لبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، وأصحاب الأعمال الرافضين الخضوع لابتزازاتهم، بحسب ما يورده "دليل الإرهاب الدولي" التابع للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة.

الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، علية العلاني، يؤكد أن نشاط تنظيم داعش في أفريقيا في تصاعد مستمر، منذ اندحاره في مناطق نفوذه بسوريا والعراق.

ويوضح العلاني، في تصريح لموقع "الحرة"، أن تقارير تشير إلى أن 50 بالمئة من نشاط تنظيم داعش العالمي يتركز حالياً في القارة الأفريقية.

ويعتبر الخبير الأمني أن تحركات التنظيم تظهر أن التصريحات القديمة بشأن القضاء النهائي على داعش لم تكن دقيقة، إذ لم تأخذ في الاعتبار قدرته على إعادة التموضع في مناطق جديدة، وهو ما حدث فعلياً في أفريقيا.

وفي حديثه عن الصومال تحديداً، يقول العلاني إن البلاد تمثل بيئة مثالية لنمو داعش، نظراً للنزاعات التاريخية المستمرة فيها، وانتشار جماعات أخرى متشددة، أبرزها "حركة الشباب".

ويحدد العلاني أن عوامل رئيسية عدة ساهمت في انتشار داعش وغيره من الجماعات المتشددة في القارة الأفريقية.

ويشير بالخصوص إلى "مئات الكيلومترات من الفراغات غير المؤمنة في المناطق الحدودية بين الدول، التي توفّر فرصة ثمينة لانتشار هذه التنظيمات، واستغلالها كملاذات آمنة".

وعلى الصعيد السياسي، يشير العلاني إلى أن هذه التنظيمات تستغل أيضا بمهارة الصراعات السياسية والعرقية والانقلابات العسكرية في العديد من الدول الأفريقية، التي تخلق بيئات مضطربة تسهل على هذه الجماعات التغلغل والتمدد.

وفي السياق ذاته، يوضح أن تفكك بعض المنظمات الاقتصادية الإقليمية، خاصة في غرب أفريقيا، أدى كذلك إلى إضعاف التنسيق الأمني بين الدول، مما سهل على هذه الجماعات التحرك  والانتشار.

"تحول مهم"

ويشير تقرير حديث لـ"مجموعة الأزمات" الدولية، إلى تحول مهم في موقع تنظيم داعش الصومال ضمن شبكة التنظيم العالمية، مؤكدا أنه رغم محدودية عملياته، إلا أنه تمكن من تطوير نفسه ليصبح جزءاً مهماً في هذه الشبكة.

ويوضح التقرير أن التنظيم يركز على ثلاث ركائز أساسية للبقاء: الجغرافيا الوعرة والمعزولة التي يصعب على القوات الحكومية الوصول إليها، والروابط القبلية خاصة مع قبيلة علي سلبان المهمشة في بونتلاند.

فضلا عن فشل خصميه الرئيسيين: حركة الشباب التي يتصارع معها على النفوذ، وحكومة بونتلاند التي تواجهه، في القضاء عليه عسكرياً رغم محاولاتهما المتكررة.

ورغم محدودية عملياته العسكرية، إذ نفذ أقل من 12 هجوماً صغيراً منذ 2023، يحذّر التقرير من أن التنظيم يطمح للتوسع خارج منطقته الحالية.

وتشير محاولاته لتجنيد لاجئين من قومية "الأورومو" الإثيوبية، وإصداراته باللغة الأمهرية، إلى رغبته في التمدد نحو إثيوبيا.

كما كشفت مصادر أمنية عن محاولاته للتخطيط لعمليات في كينيا.
زعيم التنظيم

يقود تنظيم داعش في الصومال، عبد القادر مؤمن، وقد برز مؤخراً كشخصية محورية محتملة في قيادة التنظيم العالمي.

وأشار مسؤولون أمنيون أوروبيون إلى أن "أمير داعش الجديد موجود في الصومال"، وبعد الغارة الأميركية التي استهدفت مؤمن في 31 مايو 2023 قرب مدينة دارداري في بونتلاند - والتي نجا منها - أكد مسؤولون أميركيون أيضا اعتقادهم بأنه زعيم التنظيم العالمي.

وأكد توري هامينغ من المركز الدولي لدراسة التطرف في مطلع يناير، أن مؤمن "هو الشخص الأكثر أهمية والأكثر قوة. وهو الذي يسيطر على الشبكة الدولية لتنظيم داعش".

ويُعد عبد القادر مؤمن شخصية محورية في تطور تنظيم داعش في الصومال وعلاقته بالتنظيم الأم.

وبدأت رحلته مع التنظيمات المتطرفة كعضو في حركة الشباب، حيث كان يعمل في فرعها الشمالي في بونتلاند، ومتحدثا باسمها، قبل أن ينشق عنها في أكتوبر 2015 معلناً البيعة لتنظيم داعش.

وينتمي مؤمن إلى قبيلة "علي سلبان"، وتحديداً فرع "بيسيديان"، وهو ما ساعده على تأسيس موطئ قدم للتنظيم في مناطق سيطرة قبيلته.

ووفقا للتقرير، يتميز مؤمن بطموحات توسعية كبيرة، إذ يسعى لتوسيع نطاق التنظيم خارج منطقة باري وبونتلاند والصومال.

وتصنف السلطات الأميركية مؤمن باعتباره إرهابيا عالميا، منذ عام 2016، إذ أشارت آنذاك، إلى أنه زعيم مجموعة من الأفراد المرتبطين بداعش في شرق أفريقيا.

وذكرت الخارجية الأميركية، أنه منذ ذلك الحين، وسّع مؤمن خليته من مؤيدي داعش عن طريق اختطاف فتيان تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً، وتلقينهم العقيدة، وإجبارهم على الانخراط في النشاط المسلح.

مركز تنسيق مالي رئيسي

كشفت الباحثة جيسيكا ديفيس، في تقرير حديث نشرته مجلة" CTC Sentinel" المتخصصة في شؤون مكافحة الإرهاب، أن القدرة المالية للتنظيم تصل إلى حوالي 6 ملايين دولار سنويا.

وتشير الباحثة، في التقرير الذي صدر في أغسطس الماضي، إلى أنه رغم كون الفرع الصومالي صغيراً نسبياً ومحدود النشاط العملياتي، إلا أن هذا المبلغ يكفي لتمويل أنشطته وعملياته.

ويلعب "مكتب الكرار" في الصومال دورا محورياً في الشبكة المالية للتنظيم، حيث يعمل كمركز تنسيق رئيسي يربط بين مختلف ولايات داعش في أفريقيا، خاصة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق.

كما يقوم المكتب بنقل نموذج داعش في جباية الأموال والضرائب إلى المناطق الأخرى.

ونظراً لمحدودية النفقات التشغيلية لداعش في الصومال، يتمكن التنظيم من تحويل الفائض المالي لدعم الفروع الأخرى عبر مكتب الكرار.

ويستفيد التنظيم من شبكة عشيرة "علي سلبان" التجارية في الصومال لتسيير عملياته.

ويلفت المصدر ذاته، إلى أن البنية التحتية المالية في الصومال التي تتميز بتطورها، حيث تمتلك شبكة متقدمة من مشغلي خدمات الأموال عبر الهاتف المحمول ونظام الحوالة، تسمح للتنظيم بتحريك الأموال بسرعة وبتكلفة منخفضة عالمي.

وفي سياق متصل، يسلط العلاني الضوء على تعدد مصادر تمويل الجماعات الإرهابية في القارة الأفريقية، من تجارة التهريب إلى فرض الإتاوات على الشركات العاملة في مناطق استخراج المعادن الثمينة وإنتاج الطاقة.

ويضيف أن تنظيم داعش وغيره من الجماعات المتطرفة، نظمت، في السنوات الأخيرة، العديد من الهجمات التي استهدفت مناطق غنية بالموارد، مما يوفر لها سيولة مالية لدعم عملياتها أو استقطاب مجندين جدد.

وفيما يخص جهود محاربة هذه التنظيمات، يوضح العلاني، أن التنسيق الدولي أصبح أكثر تعقيدا، خاصة بعد التطورات الأخيرة في غرب أفريقيا، مع الانقلابات العسكرية وانسحاب القوات الفرنسية وغيرها، فضلا عن تمدد قوات موالية لروسيا، مشيرا إلى أن رغم استمرار وجود الأجهزة الغربية، إلا أن فاعليتها تراجعت مقارنة بالسابق.

ويؤكد على أن تحسين التنسيق الدولي لمكافحة الإرهاب في القارة يرتبط بشكل وثيق بتحسن العلاقات الدولية، خاصة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، مشيرا إلى أن حل الأزمة الأوكرانية قد يفتح الباب أمام تعاون دولي أكثر فعالية في مكافحة الإرهاب في أفريقيا.