ما أهمية قناة بنما وهل تتحول إلى ساحة جديدة لمعارك ترامب ضد الصين؟
مظاهرات ضد تصريحات دونالد ترامب خارج مقر إقامة السفير الأمريكي بمدينة بنما في 20 يناير/كانون الثاني 2025. © أ ف ب.
اعتبر مراقبون حاورتهم فرانس24 بأن تهديدات ترامب المتكررة بالتحرك للسيطرة على قناة بنما، حتى عسكريا، تبقى مجرد ورقة ضغط يسعى من خلالها لضمان مصالح بلاده في هذا المعبر المائي الحيوي بشكل خاص، وبالمنطقة ككل بعد أن نجحت غريمة بلاده الصين إلى حد كبير في التغلغل عبرها وتوسيع دائرة نفوذها فيها.
توعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإثنين خلال أدائه القسم لعهدة ثانية "باستعادة" قناة بنما، متذرعا بأن "الهدف من اتفاقنا وروحية معاهدتنا انتهكا بالكامل".
وكان ترامب يشير هنا تحديدا إلى الصفقة التي أبرمها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر في 1977، وتمخض عنها نقل السيطرة على القناة إلى بنما في 1999.
كما قال الرئيس الـ74 للولايات المتحدة في خطاب أعقب تأديته اليمين الدستورية: "تعرضنا لمعاملة سيئة للغاية من خلال هذه الهدية" التي "ما كان يجب تقديمها أبدا. لم يتم الوفاء بالوعد الذي قطعته لنا بنما". وأضاف: "الهدف من اتفاقنا وروحية معاهدتنا انتهكا بالكامل. السفن الأمريكية تخضع لضرائب مرتفعة على نحو خطير ولا تتلقى معاملة عادلة، بما في ذلك البحرية الأمريكية".
قناة بنما.. مشروع فرنسي جسدته الولايات المتحدة
تاريخيا، تم بناء قناة بنما من قبل الولايات المتحدة وافتتحت في 1914. وسلّمت إلى بنما في 31 ديسمبر/كانون الأول 1999 بموجب معاهدات وقّعت في سبعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس جيمي كارتر والزعيم القومي البنمي عمر توريخوس.
وتعتبر القناة ممرا بحريا يمتد على مسافة حوالي 82 كيلومترا تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
ووفق موقعها الإلكتروني الرسمي بنما كانال دوت كوم، فقد كانت فرنسا هي صاحبة الفكرة حيث باشرت بناءها في 1881، قبل أن تتخلى عن طموحها في 1888 لصالح الولايات المتحدة التي قررت تحمل هذا المشروع الهندسي العملاق بموجب قرار للكونغرس في 19 يونيو/حزيران 1902.
يوضح إبراهيم شاهين باحث في القانون بجامعة "باريس بانتيون أساس"، بأن قناة بنما تخضع لسيادة هذا البلد، الذي يعد إحدى دول جنوب أمريكا الوسطى، الكاملة بموجب معاهدات توريخوس-كارتر التي تشمل حقوقا أعطيت لبنما بما في ذلك "سيادتها عليها والحق الحصري في إدارتها وتشغيلها وهي تعتبر بالتالي من الأراضي السيادية". يوضح شاهين أيضا بأن هذه "القناة تخضع لمبدأ الحيادية، أي أنها تبقى مفتوحة ومحايدة أمام جميع الدول في أوقات السلم والحرب، بالنظر إلى موقعها الحساس".
لكن لماذا يصر ترامب على المطالبة باستعادة السيطرة على قناة بنما؟ وكيف يمكن أن يبرر موقفه أقله من الناحية القانونية؟ يجيب الباحث في القانون بجامعة باريس بأنه ورغم أن حق التدخل الأمريكي في القناة مقيّد، إلا أن الولايات المتحدة تحتفظ بحق التدخل ضمن شروط معينة، منها في حال "تعرضت القناة إلى خطر يهدد حيادها أو أمنها، حق يخضع لتفصيلات قانونية صارمة".
وبالنسبة إلى الطرح الذي عبّر عنه ترامب الإثنين خلال خطاب القسم، يرى إبراهيم شاهين أنه "لا يمكن لواشنطن التراجع عن معاهدة قناة بنما بدون موافقة الأخيرة، بموجب اتفاقية فيينا لعام 1969 التي تنص على أن إنهاء المعاهدات أو الانسحاب منها يتطلب موافقة جميع الأطراف، إلا في حالة إحداث إخلال جوهري أو تغيير جذري في الظروف التي تم على أساسها إنشاء المعاهدة".
بدوره، لفت د. محمد بن صالح الحربي خبير عسكري واستراتيجي ولواء أركان حرب سابق، إلى أن القناة حيوية جدا بالنسبة إلى الأمريكيين خصوصا وأنها "تختصر المسافة بين نيويورك غرب الولايات المتحدة وشرقها في سان فرانسيسكو من 21 ألف كلم إلى 8 آلاف كلم"، وبالتالي فهو ممر حيوي للاقتصاد الأمريكي، خصوصا مع قدرته الاستيعابية السنوية المقدرة بحوالي 18 إلى 20 ألف ناقلة سنويا تعبر في الاتجاهين، وفقا لنفس المصدر.
تحرك عسكري أمريكي؟
وحتى قبيل عودته إلى سدة الحكم مجددا، كرر ترامب مرارا أنه يريد استعادة قناة بنما. فمنذ فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، طالب بضم أراض جديدة شملت حتى كندا وغرينلاند التابعة للدانمارك.
ولم يتوان الرئيس الأمريكي عن التلويح باستخدام القوة العسكرية "لاستعادة" قناة بنما. ورفض في 7 يناير/كانون الثاني استبعاد القيام بتحرك عسكري بشأن القناة وغرينلاند اللتين يرى بأن على بلاده السيطرة عليهما.
وقال ترامب خلال مؤتمر صحفي في منتجعه مارالاغو بولاية فلوريدا: "لن أعلن التزامي بذلك (أي عدم القيام بتحرك عسكري). قد نضطر للقيام بأمر ما". مضيفا: "يمكنني أن أقول ذلك: نحتاج إليهما من أجل الأمن الاقتصادي".
أثار ذلك انتقادات كبيرة في بنما التي رفضت الإثنين تصريحاته مشددة على أن الممر المائي سيبقى تحت سيطرتها. وجاء في بيان للرئيس خوسيه راول مولينو: "أرفض بالكامل كلام الرئيس دونالد ترامب".
وتظاهر العشرات أمام مقر إقامة السفير الأمريكي في بنما سيتي، وأحرقوا الأعلام الأمريكية ورفعوا لافتات كتب عليها: "قناة بنما ليست للبيع". وقال الزعيم النقابي سول مينديز: "ما هو موجود في بنما ملك للبنميين. القناة بنمية والسيادة لبنما وحق تقرير المصير بنمي (...) لا شيء لهم هنا"، حسبما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية.
رغم ذلك، يلفت إبراهيم شاهين إلى وجود مجال للتفاوض بدون خيار التصعيد والمواجهة، لكنه يلحظ بأن ترامب يفضل التلويح بورقة الانسحاب وإطلاق التهديدات للضغط على بنما لإعادة التفاوض على شروط إدارة القناة وتحصيل منفعة لبلاده. يقول محدثنا: "كرجل أعمال، يسعى ترامب إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب، مثلما فعل مع تطبيق تيك توك مؤخرا".
من جانبه، يشرح د. محمد بن صالح الحربي لفرانس24 بأن تصريحات ترامب الأخيرة تضع "الولايات المتحدة في موقف صعب. حيث إن طموحات السيطرة على قناة بنما يقابلها مسعى الصين السيطرة على تايوان من جهة، وكذلك على بحر الصين الجنوبي بالكامل الذي تشكل حصة الولايات المتحدة منه 25 بالمئة ما يعادل 6 ترليون دولار سنويا من حجم المبادلات الاقتصادية المتوقعة خلال 2025".
ويرى الحربي بأن هذا "الموضوع لا يزال في منطقة ضبابية للغاية مع صعوبة في توقع مخرجاته لأنه سيتطور إلى ملف جيوسياسي متقدم، خاصة وأن محوره سيكون الحرب التجارية أو الحرب الشرسة الناعمة بين الولايات المتحدة والصين".
كما يستبعد لواء أركان الحرب السابق لجوء واشنطن إلى التحرك عسكريا متسائلا: "هل يؤيد مستشاري الأمن القومي الأمريكي أي خطوة من هذا القبيل؟ حيث إنها تحتاج لتقدير موقف ما بين السياسيين والعسكريين خاصة". مضيفا: "من الصعب تنفيذ أي تحرك بدون موافقة العسكريين. نعم هو مجرد ورقة من أوراق الضغط تحت قاعدة اطلب المستحيل لتنال الممكن".
في نفس الشأن، أكد الأمين العام للمنظمة البحرية الدولية لوكالة الأنباء الفرنسية في 14 يناير/كانون الثاني، بأن قناة بنما "ستبقى" بنمية، ردا على تهديدات ترامب بضم القناة. وصرّح أرسينيو دومينغيز المنحدر من بنما: "بالنسبة لي، الأمر واضح للغاية ولا يحتمل التوسع في مناقشته لأن المعاهدات تم توقيعها في عام 1977. انتقلت القناة إلى سيادة بنما التي تواصل تشغيل هذا الممر المائي الحيوي وستستمر في ذلك".
الصين - بنما.. ما الذي يخشاه ترامب؟
من جهة أخرى، اتهم ترامب الصين بالسيطرة على هذا الممر المائي الحيوي. وقال: "لم نعطها (القناة) للصين بل أعطيانها لبنما. وسنستعيدها". ولم يستبعد ترامب في السابق استخدام القوة ضد بنما.
يرى د. محمد بن صالح الحربي بأن الرئيس الأمريكي يبرر موقفه ذلك "بوجود سيطرة صينية أو استحواذ ما يؤدي إلى دفع الرسوم بطريقة غير قانونية للصين، ضمن الحرب التجارية بين الجانبين". ويضيف بأن "أغلب الشركات المشغّلة لقناة بنما ولوجستياتها باتت اليوم صينية بموجب اتفاقية تجارية استثمارية بين البلدين للتشغيل والحركة".
بمواجهة وعيد وتهديدات ترامب، شدّد الرئيس البنمي خوسيه راول مولينو على أن "القناة بنمية وستبقى كذلك"، رافضا إشارة ترامب إلى أن القناة تشغّلها الصين. وقال مولينو: "لا حضور لأي من بلدان العالم ولا تدخل".
في نفس السياق، كشف مقال لنيويورك تايمز عن أن الصين التي تسعى إلى توسيع نفوذها في بنما لطالما اصطدمت بـ"ضغوط أمريكية". ولفتت الصحيفة خصوصا إلى مشروع خط للسكة الحديدية العالية السرعة وخط مترو جديد ستقوم الصين ببنائه في بنما، إضافة إلى ميناء حاويات حديث.
وأوضحت كاتبة المقال فيفيان وانغ مراسلة الصحيفة في بكين، بأن "الصين تعمل على بناء علاقات ونفوذ في بنما منذ سنوات، كجزء من طموحها الأوسع لتوسيع نطاق وجودها في أمريكا اللاتينية". وقالت إن بعضا من هذه المساعي تكلل بالنجاح، لكنها واجهت أيضا الكثير من النكسات.
ولفتت كاتبة المقال أيضا إلى حادثة هامة طرأت على العلاقة بين البلدين، تجسدت في قطع بنما علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان في 2017، بعد أن كانت من الدول القليلة في العالم التي اعترفت بتايوان كدولة ذات سيادة (تعتبرها الصين جزءا من أراضيها).
كما ذهبت بنما إلى أبعد من ذلك حيث أصبحت في العام الموالي أول دولة بالمنطقة توقع على مبادرة الحزام والطريق، برنامج البنية الأساسية العالمي الذي أطلقه الزعيم الصيني شي جينبينغ، لتوسيع الثقل الجيوسياسي للصين ومواجهة النفوذ الأمريكي، حسب نفس المقال.
عن هذا الموضوع، قال د. وائل عواد كاتب صحافي مختص بالشؤون الآسيوية، إن تصريحات ترامب الأخيرة حول بنما والصين "ليست مسألة تتعلق فقط بالنفوذ الأمريكي، بل هي محاولة للتضييق على الصين على مستوى معظم الممرات التجارية، خاصة وأن الصين شرعت في بناء ميناء بنما وقامت بتوسيعه لزيادة عدد السفن التجارية التي يمكن لها عبور القناة".
وأضاف عواد في تصريحات لفرانس24: "باتت الصين تشكل خطرا على المصالح الأمريكية على اعتبار أن نفوذها بدأ يمتد إلى دول أمريكا اللاتينية. لذلك، نرى أن إدارة ترامب الجديدة ستستمر في التصعيد فيما تحاول إنهاء الحرب في أوكرانيا والنزاع في الشرق الأوسط، بهدف التفرغ للصين، مصدر الخطر الرئيسي على الولايات المتحدة".
ويرى عواد أيضا بأن كل التصعيد الذي يريده ترامب هو بهدف الضغط فقط، مستبعدا أن يطبق ترامب تهديداته، خصوصا "في ظل عدم وجود تهديد أمني" واضح على مستوى القناة، مضيفا: "نحن في مرحلة تصعيد بمنطقة آسيا باسيفيك (المحيط الهادئ) وهي جزء من المناورات الأمريكية، وخاصة أن ترامب معروف بإجرائه صفقات وابتعاده عن الحروب. لذلك، فهو يمارس سياسة الضغط باستخدام العصا بدون الجزرة".