كيف عشنا أول جمعة رجب من العام 2011؟

في نهار يوم الجمعة من أول شهر رجب من العام ٢٠١١م عاش اليمن واليمنيين أحلك الليالي المظلمة في تاريخ البلد، تدافع اليمنييون إلى ساحات الشرف، دفاعاً عن اليمن ورئيس البلاد، كان الجميع في حالة استنفار قصوى، فيما تسمر الملايين أمام شاشات التلفاز، كانت قلوبنا جميعاً بين أيدينا، نبحث عن الرئيس، عن صالح اليمن، عن الزعيم الذي لطالما حمل اليمن على كتفيه كما يحمل الأب فلذة كبده، لا خبر يُشير للحظة عن مصير رئيس البلاد، ومازلنا أمام شاشات التلفاز ننتظر الخبر، كنا نخشى على مصير صالح لأن مصيره ومصير حياته مرتبط بمصير وطن وشعب، وهذا ما أثبتته الأيام والأحداث، فكرة أن يموت الرئيس صالح لم نضعها قطعاً ضمن الاحتمالات أو السيناريوهات المحتملة، كنا ندرك بأن رحيل الشهيد صالح لن يكون رحيل على غفلة، وخلال ساعات عصيبة، اختلط فيها الهتاف فرحاً بهذه الجريمة الإرهابية الجبانة من قبل تنظيم الإخوان، والدخان، والرصاص، والدم، والموت، والحزن العريض من أقصى أطراف اليمن إلى أقصاها، كان اليمن يشهد أول ولادة  لصراع مسلح وقتل ودمار وفوضى عارمة وفراغ للدولة وانعدام للسيادة الوطنية في تاريخه المعاصر.

هكذا عشنا ذلكَ اليوم المشؤوم، بلحظاتهِ الحرجه والمرعبة، ونحن نرفع ايدينا نحو سماء الله بدعوات حزن وخوف، كخوف الأمهات الأبدي، وفجيعة الآباء التي ليس لها من نهاية، ثم فجأة يطل علينا تسجيل، كان أشبه بشريان الروح العائد إلى الجسد، بالنبض الذي أتى ليُعيد إليكَ عافيتك، صوت الرئيس صالح، صوت شاحب كفيل بشرح حجم الألم والوجع والخدوش والحروق الذي تعرض له جسده، كانت لحظات ممزوجة بالفرح وبكثير من الأسى والحزن، سمعناه يقول "إذا أنتم بخير فأنا بخير" هنا عادت الروح لليمن، وعادت لنا الحياة التي أراد المجرمون قتلها، صالح يعود، مازال يتنفس، مازال حاضراً رغم الموت، حاولت القنابل الهمجية والصواريخ قتله، لكنه الآن صار أكبر من ذي قبل، صوتهُ المخنوق خلف جدران بيت الله يدوي في السماء، نُريدُ وطناً خالي من الإرهاب والفوضى والدمار، فكان له المجد والخلود، و لأعدائه وأعداء الوطن الذُل والعار.

تُولد الشهور والسنين في التقاويم، ووحدهُ أول شهر رجب من يولد في ساحة الإرهاب والموت المُفخخ، كل الأشهر الهجرية و الميلادية تأتي أعياد إلا شهر رجب يأتي يتيم مشوه بلا رأس وأذنين يحمل ذكريات سوداء وأسماء ضحاياه إما جرحى معاقين أو شهداء راحلون، لم تكن أول جمعة رجب المُحرم يوماً للتشاؤم، ولا بهذا الصيت سيء السمعة، لكن الحالمون بالسلطة عبر بوابة الفوضى وعصابات الجماعات الدينية المتطرفة من شوهوا سمعتهُ ومكانة هذا اليوم العظيم، منحونا فيه التشاؤم عبر نافذة الإرهاب التي من خلالها قادتنا إلى رفات وطن ورفات شعباً مكلوم.

كائنات مريضة تسكنهم طاقة ورغبة منهكة في قتل واستهداف الآخرين، في عمقهم روح الإرهاب المتأصل في نشأتهم وعقيدتهم، لكن الكارثة ليست هنا، وإنما في الوصول إلى الفكرة الأكثر جرماً، وهي أن يُمارس القتلة والمجرمين من دبر للعملية الإرهابية ومن نفذ وأجهز وسهل، لحياتهم الطبيعية وكأن الأمر ليس بذلك الجلل الذي يستدعي الاستنكار وملاحقتهم وتقديمهم للعدالة وللمحاحكمة القضائية.

نعيش اليوم في عالم يحتفي فيه القاتل بجريمتهِ الإرهابية القذرة الأكثر صيتاً واستنكاراً دون أي رادع قانوني أو ملاحقة دولية، وكأن هذا العالم يُرغمنا على أن نكون جزءًا من هذه الجريمة إذا ما فكر أحدنا بالانتقام ورد الفعل المماثل، المبدأ الذي رفضهُ الشهيد علي عبدالله صالح وكان أول المحذرين من ردة الفعل المماثلة، مع أنه رد وحق كفلتهُ لكَ الشرائع السماوية والقوانين الدولية، إلا أن رفضهِ لذلك كان حفاظاً على سلامة الوطن وشعبهِ ووحدة نسيجه الاجتماعي.

اليوم وفي الذكرى الرابعة عشرة لجريمة دار الرئاسة الإرهابية، تتوجه عيني نحو الشرعية بمؤسساتها القانونية والتنفيذية، ونحو محكمة العدل الدولية في لاهاي، وفي داخلي صراع بين مسألة التنديد الافتراضي، والتنفيذ الواقعي الملموس الذي يفترض أن يقودنا لمعالجة الأخطاء ويترجم معنى الانتصار للعدالة بردع الإرهاب إلى أن يتحول إلى مجرد ذكرى تدوسه الأجيال كلما مرت عليه.

بقي الرئيس علي عبدالله صالح، يُصارع من أجل بقاء الدولة، عاد من مشفاه حاملاً لحمامة السلام وغصن الزيتون، داعياً الجميع إلى الحوار وتجنيب اليمن الانزلاق إلى حروب داخلية طاحنة، كان متمسكاً باليمن وبأمنهِ واستقراره لآخر لحظات حياته، كان مقاتلاً عنيداً في ميادين السياسة والخطابة وفي المواجهة المباشرة مع أذيال الإمامة والرجعية المتخلفة، كيف نغادر صالح اليمن يقول خصومة، يجيبهم الموت آنذاك ليس بعد، مازال صالح لديه الكثير، مازال أمامه الوقت ليكتب عنه التاريخ مالا يكتبه عن غيره، وحين يُعاند صالح الموت فلا جغرافيا في هذا العالم تملئ وجدانيتهُ ومكانتهُ وحضوره.