في الذكرى الثالثة عشر لجريمة مسجد دار الرئاسة.. ننعي وطن

*كتب/ مصطفى المخلافي

مساء يوم الجمعة الموافق 3 يونيو من العام 2011م يُحاصرني قلق لا يُفسر، قلق يُشبه الموت، أجدُ نفسي أهبط إلى هاوية مُعلقةٍ، على أطراف الخوف، أقصدُ صنعاء التي أقاسمها معاناة الألم وروح صالح، أسيرُ بسيارة ذاتِ محركٍ مُعطل، لحضور أُمسيةٍ جماهيرية لأنصار الرئيس علي عبدالله صالح، أتذكر حينها أنني شاهدتُ شرود الناس، ولم يكونوا كعادتهم في أماكنهم، وكانت الصدمة في ملامح وجوههم ظاهرة رغم الضوضاء والفوضى التي تملئ المكان، نزلت من السيارة برفقة أخي الأصغر، نمشي في خطوات بطيئة جداً والخوف يتملكنا معاً، يسأل أخي أحد المارة، فيخبره بإنفجار في مسجد دار الرئاسة ويُشير بإصبعه نحو شاشة التلفاز، صُعِقنا من هول الخبر وشريط القنوات العاجل الملون بحبر دماء اليمنيين، أعتقدنا جميعاً بأن صالح أستشهد وضاقت كل البلاد وسودت أمامنا، وكانت هذه الفاجعة أشبه بعلامات قرب قيام ساعة الحرب وانزلاق اليمن لحرب أهلية، ولعلي أتذكر كئابة تلك الليلة التي لا تغيب عن قلبي للحظة.

لقد عرفت الإنسانية جمعاء جرائم إغتيال عديدة، لكنها لم تشهد مثل هذه الجريمة التي لم تراعي حرمة بيت الله ولا حرمة جمعة رجب، ويعني هذا بأن المجرمين قد علموا يقيناً بأن أسهل طريقة لمحاولة تصفية صالح يجب أن تكون في بيت الله، هناك يخرج صالح من حماية العباد إلى حماية رب العباد، وقد انجاه الله وعافاه من هذه الجريمة البشعة، ولم يمكنهم مبتغاهم.

ولعلنا نستطيع القول بأن الشهيد علي عبدالله صالح قد عرض نفسه للموت حين جنح للسلم، واختار طريق الحوار ورفض الحلول العسكرية التي كانت ستجنب البلاد كل هذا القتل والتطرف والدمار، رغم وقوف الغالبية العظمى والسواد الأعظم لجانب الدولة وقراراتها، لكن الفطرة السليمة والبذرة الطيبة تغلبت على علي عبدالله صالح وكان خيار السلام مبدأه وسيفه الذي حارب به لآخر لحظات حياته.

كان علي عبدالله صالح يُدرك جيداً خطورة تعامله مع الجماعات الدينية المُتطرفة التي تعيش عادةً في الظل، وظهورها يكون سطحياً لكنه سرياً بالأساس، بحيث تستطيع ممارسة دورها من خلال خطوات تنفيذ مخططاتها دون النظر لتبعات ما قد تقدم عليه، وكانت عملية محاولة إغتيال الشهيد علي عبدالله صالح في "مسجد دار الرئاسة" عام ٢٠١١م من أبشع عمليات الإغتيال في العالم، ومع ذلك ورغم معرفة صالح بنوايا خصومه القذرة، إلا أنه لم يتخيل أو يتوقع للحظة بأنهم سينفذون جريمتهم وهو بين يدي الله، لقد مثلت هذه الجريمة البشعة صدمة كبيرة لصالح ولعامة اليمنيين والعالم العربي والإسلامي، كانت جريمة فجور وحقد أعمى قبل أن تكون جريمة إرهابية بشعة.

وما نريد إيضاحه هنا ليس فقط بشاعة طريقة محاولة تصفية وقتل صالح وأركان الدولة وظروف وحيثيات هذه الجريمة الإرهابية المنظمة، وإنما بالدرجة الأولى إنعكاساتها على السياسة المحلية والإقليمية، فجميع عمليات الإغتيال في العالم تهدف بالضرورة إلى إجراء تغيير أو تعديل على السياسة السائدة في البلد، إلا في اليمن كان الهدف الرئيسي من وراء هذه العملية الإرهابية تصفير الأمن والاستقرار في البلد، وهدم كل البلاد على ساكنيها، وحرق وقتل كل شيء له صلة بصالح، من بنية تحتية، ومؤسسة عسكرية، ومياة، وكهرباء، ووحدة شعب وأرض اللذان أرتبطا إرتباطاً متيناً بشخصية علي عبدالله صالح.

وفي رأي ملايين اليمنيين انتصر الشهيد علي عبدالله صالح على خصومه مرتين، المرة الأولى حين نجا من الموت في دار الرئاسة، والمرة الأخرى إختياره لطريقة رحيله، هذه هي فلسفة تاريخ صالح التي يفهمها ويعتنقها ويؤمن بها ملايين اليمنيين، وهي فلسفة تقول لك ما معناه، أن محاولات القتل بطريقة قذرة يأست عن مواجهتي أو النيل مني، بل لا يتجرأ الموت عليّ بتلك الطريقة.

لقد غيرت هذه الجريمة البشعة مجرى تاريخ اليمن ككل، حين جرح صالح في مسجد دار الرئاسة، وأستشهد بعص من رفاقه على رأسهم الشهيد عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى، وحين أستشهد صالح لاحقاً مدافعاً عن قيم ومبادئ وأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر والـ٢٢ من مايو المجيد، هذا العُنفوان الوطني الذي كان يجسده صالح في كل خطاباته، هو الذي تسبب في التآمر عليه وتصفيته للأبد، لأن مخطط تقسيم اليمن كان قد بدأ ووجب تصفية صالح الذي كان يقف جبلاً عثراً أمام مخطط التقسيم، هنا كان صالح في نظر المتآمرين في الداخل والخارج شبه ميت، أو في حكم الميت، لقد سبق الخونه العدل، أما السيف فقد قاتل به صالح وسبقهُ للموت

كان الفليسوف " كيركغارد" يقول لحظة حسم القرار لحظة جنون، وهذا ما فعله صالح حسم الأمر وأختار قرار مواجهة التحديات من بعد إستهدافه في مسجد دار الرئاسة حتى رحيله، ودفع ثمن انحيازه للوطن نيابة عنا جميعاً.

وبرغم كل هذا القُبح في الفجور، لم يكن صالح في قرارة نفسه متعصباً لثأر أو ناقماً من أحد، عاد من مشفاه في الخارج مخاطباً قتلت رفاقه، لقد عُدتُ حاملاً لكم بيدي حمامة السلام وغصن الزيتون، ثم أكمل يقول لم أعد حاقداً أو منتقماً، وتعالوا للحوار، لم يكن صالح سياسياً عادياً مقتنصاً لفرص الانتقام، بل كان سياسياً محنكاً قرأ ووعى الكثير من الفكر السياسي والايدولوجي على المستويين العربي والعالمي، ولذا تجدهُ كان يعرف كيف يُخاطب الجماعات الدينية المُتطرفة، وكيف يُفشل مفاتيح أجنداتها، ولم يقودهُ تمزق وحرق مساحات كبيرة من جسده إلى ردة الفعل، بل كان حكيماً في أولى لحظات إصابته من الحادث الإرهابي لنجله أحمد، بأن لا طلقة واحدة، حقناً لدماء اليمنيين، وبهذا الوفاء والإخلاص والحرص، إستطاع صالح أن يصل به إلى أبعد مما وصل سواه.

وأخيراً:

إن من أقدم على هذه الجريمة الإرهابية البشعة وقتل وسفك الدماء الزكية في مسجد دار الرئاسة، لا بد منه، وستطاله يد العدالة ولن يعيش طويلاً، ولن يستطيع أحداً أن يضمن له مكاناً آمناً ولو بحجم نقطة الضوء في بحر الظلام، وأن من مهروا تضحياتهم بدمائهم الزكية دفاعاً عن هذا الوطن لن تضيع حقوقهم.