مقاومة أم حرب طائفية؟

ظل الطموح الإيراني الجارف بالتمدد خارج حدود الخريطة الجغرافية محكوماً لفترة طويلة بحدود الخريطة المذهبية للمنطقة.

كان هذا الطموح يؤرق شاه إيران الذي قيل له مرة، إنه لكي يمتد النفوذ الإيراني للبلدان العربية فليس له بد من واحد من طريقين: إما أن تتسنن إيران أو أن يتشيع العرب.

وقد لازم هذا الطموح النظام الإيراني بعد ثورة 1979، ولكن بشكل مدمر، الأمر الذي جعل النظام يسلك الطريق الثاني، وهو أن تتشيع المنطقة، ولو بالقوة من أجل أن تجد إيران نفوذاً أقوى، تارة بسطوة ميليشياتها، وأخرى بإصرارها على التسلح النووي الذي تراوغ طهران بالقول إنها لا تسعى إليه، بفعل فتوى الخميني التي تحرم إنتاج واستعمال السلاح النووي، وهي الفتوى التي جاءت في سياق التأثر بمسارات الحرب مع العراق، والتي تشبه فتوى الخميني بـ “قتل سلمان رشدي” التي تملص منها الإيرانيون لاحقاً.

“الشعور الأقلوي” لدى النظم السياسية المتعاقبة في إيران هو الذي يدفعها للصياغة خطاب متعاظم، يحاول أن يبرز إيران وكأنها الأمة الإسلامية أو “أم القرى الإسلامية” أو قائدة محور المقاومة الإسلامية، وغير ذلك من مصطلحات تم نحتها بعناية لإعطاء شيء من التعويض النفسي الذي يروّض  إلى حد ما الشعور الأقلوي الممض الذي يتعمق لدى اللاوعي السياسي الإيراني، وهو الشعور الذي يضع إيران في مواجهة مع حقائق التاريخ والجغرافيا، مع رغبة مجنونة لإعادة صياغة هذه الحقائق التي يراد لها أن تعاد صياغة حدودها بالدم المسفوك من اليمن إلى العراق ولبنان وسوريا، وغيرها من البلدان التي تضرب فيها إيران العرب بالعرب في حروب طائفية يشنها النظام الإيراني الذي يحسن تغطيتها بدثار كثيف اسمه “المقاومة”.

ومع نفي النظام الإيراني للبواعث الطائفية والقومية لحروبه التوسعية، ومع إصراره -على مستوى الشعار – على أن بواعثه “إسلامية” إلا أنه يجتهد في “تطييف” فعل المقاومة وصبغه بلون واحد، رغم دعمه لحركات سنية يحاول استيعابها والاستفادة منها سياسياً، ليظهر على غير ما يعرف عنه من سلوك مذهبي فاقع.

ومن أبرز الحيل التي لجأ إليها النظام في إيران للتغطية على حقيقة توجهاته الطائفية تبني قضية فلسطين، وهي القضية المركزية للعرب والمسلمين، وقد نجح هذا التكتيك في إكساب النظام شيئاً من شعبية خلال السنوات التي سبقت حروب الحرس الثوري الطائفية الفاقعة في أكثر من بلد عربي، عبر وكلائه من تنظيمات “التشيع السياسي”.

وقد كان من نتائج هذا التبني أن خسرت القضية الفلسطينية الكثير من أبعادها الرمزية والدينية ورمزيتها الأخلاقية، بعد أن أفاقت قطاعات واسعة من العرب على جرائم جسيمة ارتكبها نظام طهران وربط بينها وبين الدفاع عن فلسطين، مثل جرائمه في لبنان والعراق وسوريا واليمن والتي تصدرها الآلة الإعلامية الإيرانية على أساس أنها جزء من “المقاومة الشريفة” ضد أمريكا وإسرائيل، خاصة وقد ارتبط الكثير من هذا الجرائم بفيلق إيراني سيئ الصيت يحمل تسمة “فيلق القدس”، الذي كان له دور في أبشع عمليات التطهير والقتل والتهجير الطائفي في التاريخ العربي الحديث.

لقد خلقت إيران التي دأبت على تكرار اسم القدس وفلسطين في كل مناسبة، خلقت في كل بلد عربي وصلت إليه نكبة فلسطينية الأبعاد والملامح، حيث تعرض الملايين من العرب للقتل والتهجير في جرائم كان لفيلق القدس نصيب الأسد منها، الأمر الذي جعل شعوب تلك البلدان مشغولة بقدسها الخاصة ونكبتها المباشرة، وهو ما أسهم – للأسف – في صرف الأنظار عن مركزية فلسطين وقضيتها العادلة بسبب تلك “الفلسطينات” التي جعلت مأرب وحلب والموصل نكبات مباشرة لليمنيين والسوريين والعراقيين، الأمر الذي جعل الكثير من العرب يفكرون في جراحهم الخاصة، ناهيك عن أن الأوضاع الاقتصادية المزرية التي فاقمتها الصراعات الدائرة في كثير من البلدان العربية جعلت شرائح شعبية واسعة تنشغل بمشاغل ومتطلبات الحياة اليومية، بعيداً عن العناوين التي ظلت بارزة لعقود طويلة، والتي كانت تحرك الجماهير وتوحدها شعورياً تجاه قضية مركزية واحدة، قبل أن تتفتت هذه المركزية إلى مركزيات أخرى موازية تورات – إلى حد ما – في هوامشها القضية المركزية الأولى، إلا ما كان من تواجد لها في شعارات لأغراض معروفة.

إن أكبر إساءة للقضية العادلة أن يتبنى الدفاع عنها نظام ظالم يسعى باسمها للاختراق المذهبي والتكسب السياسي، الأمر الذي يفقد القضية العادلة أهم ما تملكه، وهو كونها قضية ضمير، لا مجرد ملف سياسي يمكن توظيفه لأغراض لا تخدم عدالة تلك القضية، وهذا للأسف الشديد ما حدث للقضية الفلسطينية على يد الإيرانيين.

لقد فعل النظام الإيراني بالعرب وبالقضية الفلسطينية – باسم هذه القضية – خلال عقد واحد ما لم تستطع إسرائيل أن تفعله خلال أكثر من ستة عقود، وإذا كانت إسرائيل قد هجرت وقتلت ملايين الفلسطينيين فإن إيران قد هجرت أضعافهم من أشقائهم العرب في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وإذا كانت إسرائيل تحتل فلسطين فإن إيران عن طريق ميليشياتها تفاخر باحتلال أربع عواصم عربية، وإذا كانت إسرائيل لم تستطع أن تتقدم – خلال عقود – في التطبيع الشعبي مع العرب والمسلمين فإن إيران قد أحدثت اختراقات هائلة في بنية النسيج الاجتماعي العربي، الأمر الذي نتج عنه كل هذه الفتن الطائفية التي تشهدها منطقتنا العربية اليوم، وبالإمكان الحديث عن المزيد من الشواهد والمقارنات الجارحة في الآن ذاته، لولا ضيق الحيز المتاح.

ومع كل ذلك فإن ما حدث من تبني الإيرانيين للقضية الفلسطينية وتوظيفها لخدمة مشروعهم القومي والمذهبي فكان نتيجة الفراغ الذي أحدثه تراجع النظام الرسمي العربي عن التزاماته القومية والإسلامية تجاه هذه القضية، كما أن نظام طهران رغم أفعاله التدميرية وحروبه المباشرة أو بالوكالة ليس الفاعل الوحيد في كل هذا الخراب، وإن كان هذا النظام هو الأداة الدولية لتنفيذ مخططات الحروب الطائفية التي فتت دولاً عربية بعينها بيد أبنائها وبتدخلات إيرانية مسلحة تلت سنوات من “الإرساليات التشييعية” التي كان له آثار تدميرية على الأمن والسلم المجتمعيين في بلدان عربية عديدة.