بعد فتح الأرشيف.. مطالب بالتحقيق في "الجرائم الفرنسية" بحرب الجزائر

مع اقتراب حرب استقلال الجزائر من نهايتها، أقدمت قوات الأمن الفرنسية على قمع تظاهرة شارك فيها آلاف الجزائريين بالعاصمة باريس، مما أدى بحسب صحيفة "إندبندنت" إلى مقتل نحو 300 متظاهر في ليلة واحدة، وإلقاء جثث الكثير منهم في نهر السين.

كانت تلك التظاهرة السلمية، التي انطلقت في 17 أكتوبر من عام 1961 تلبية لدعوة أطلقتها جمعية "جبهة التحرير الوطني" في فرنسا، للخروج في مسيرات ضد حظر التجول الذي فرضه مدير أمن العاصمة، موريس بابون، في تلك الليلة، وخلال الأيام التي أعقبتها.

وهنا يتذكر محمد إنداريك، أحد الناجين من تلك الأحداث، في شهادته للصحيفة البريطانية، أنه كان في سن المراهقة حين شهد "الهجمات الإجرامية التي نفذها ضباط شرطة باريس" بحق المتظاهرين.

وقال إنداريك إنه كان بلا حول ولا قوة بينما يشاهد عشرات الجزائريين، بمن فيهم أصدقاؤه المقربون، يتعرضون للضرب بشكل متكرر بالهراوات وأعقاب البنادق، قبل إلقائهم في نهر السين ليلقوا حتفهم غرقا.

والآن، بعد مرور أكثر من 6 عقود، قد يتمكن الناجون، مثل إنداريك، أخيرًا من الاطلاع على وثائق بالغة السرية بشأن الفظائع التي ارتكبت في تلك الفترة، ويأتي ذلك في أعقاب إعلان باريس أنها قررت الإفراج عن الوثائق التي تتعلق بحرب الجزائر قبل 15 عاما من الموعد المقرر.

"نجوت من الموت.. ولكن"

وقال إنداريك، البالغ من العمر الآن 79 عامًا، لصحيفة إندبندنت: "لم  يجر تقديم أي شخص إلى العدالة على الإطلاق بسبب المذبحة في باريس، وذلك رغم تصوير مئات رجال الشرطة وهم يقتلون المتظاهرين".

وأشار إلى أن تلك الحادثة لم تكن استثناء، موضحا: "طوال فترة الحرب الجزائرية قتل وعذب الجيش الفرنسي، مع الشرطة، الكثير من الجزائريين ليفلتوا لاحقا من العقاب، دون أن يكلف أحدهم عناء إصدار أي بيانات بشأن ما كان يحدث، ناهيك عن التحقيق في  تلك الجرائم".

وزاد: "نريد جميعًا  معرفة أسماء الضحايا خاصة وأن الكثير منهم كان بعمري أو أصغر سنا عند ارتكاب تلك المجازر"، علما أن كان في سن التاسعة عشرة عندما شهد المجزرة التي ارتكبتها قوات الأمن في باريس ضد المتظاهرين.

ويوضح إنداريك أنه نجا من الموت بأعجوبة بعد أن تمكن من الفرار في وقت كانت الشرطة تبحث فيه بالشوارع عن أي شخص داكن البشرة "لضربه أو قتله".

من جانبه، يقول، أرزقي أمازوز ، وهو مؤيد مخضرم آخر للنضال الوطني الجزائري يدعو إلى مزيد من الشفافية منذ عقود، "نحن على علم بعدد القتلى والجرحى الذين سقطوا في تلك التظاهرات، ولكن لا تزال تنقصنا الكثير من المعلومات".

وتابع: "لهذا السبب قمنا بتقديم الالتماسات بشكل مستمر من أجل فتح الوثائق الأرشيفية التي جرى إغلاقها لفترة طويلة جدًا"، مردفا: "هناك حاجة إلى مزيد من التحقيقات، وإذا أمكن، يجب محاكمة المسؤولين في نهاية المطاف عن الجرائم مع وجود أدلة كثيرة تدينهم".

وفي السياق ذاته، يقول أحمد طويل، الذي كان يبلغ من العمر 13 عامًا فقط عندما كان محاصرًا في الاحتجاجات المناهضة للحرب في باريس: "هذا القضية يجب أن تفتح ونأمل أن يحدث ذلك قريبا".

واعتبر طويل أن فتح الملفات سوف يكون مشابها لما جرى بالنسبة للملفات المتعلقة بالمحرقة النازية لليهود "الهولوكست" خلال الحرب العالمية الثانية، التي شارك فيها عدد من الفرنسيين الذين تعاونوا مع ألمانيا في عهد هتلر.

وكان مدير أمن العاصمة باريس، موريس بابون، الذي أشرف على قمع تظاهرات أكتوبر  1961 قد تعرض للمحاكمة في 1998 وأدين بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ولكن ذلك جاء بسبب تعاونه مع النازيين، وليس على خلفية سقوط مئات الضحايا من الجزائريين.

وفي هذا الصدد يقول الأكاديمي الجزائري وأستاذ العلوم السياسية، زهير بو عمامة، في حديثه لموقع "الحرة"، وتعقيبا على محاكمة بابون، "لو كانت فرنسا لديها النية في إنصاف ضحايا مجزرة 17 أكتوبر لكان جرى إدانته وفي نفس المحاكمة المتعلقة بترحيل اليهود الفرنسيين، ولكنها لم تفعل".

وأضاف: "بل أن واحدة من أمناء الأرشيف أبدت وقتها استعدادها لتقديم وثائق تساهم في كشف حقيقة ما حصل في تلك المجزرة، ولكنها عوضا عن ذلك فصلت من عملها ويبدو أن تلقت تهديدات قبل أن تعود إلى وظيفتها عام 2004".

وفي العام 1995، بعد نصف عقد من اعتقال السلطات الفرنسية لحوالي 75 ألف يهودي وإرسالهم إلى غرف الغاز، اعترف الرئيس الفرنسي آنذاك، جاك شيراك، بتلك الجريمة ملقيا باللوم على "حماقة الدولة الفرنسية" التي "سلمت من الذين كانوا تحت حمايتها إلى جلاديهم".

وتشير بعض التقديرات إلى أن ما لايقل عن 1.5 مليون مدني جزائري قد قضوا خلال حرب الاستقلال بين عامي 1954-1962، بالإضافة إلى إصابة ملايين بجروح متفاوتة، ذلك بخلاف تدمير قرى وبلدات بأكملها من خلال استخدام أحدث الأسلحة فتكا وتدميرا.

ويقول مؤرخون إن القوات الفرنسية لجأت إلى عمليات إعدام وتصفية جماعية، عبر غرف الغاز، واستخدام قنابل النابالم المحرمة دوليا، وغيرها من الأساليب التي تستخدم في عمليات الإبادة والقتل الجماعي.

وكانت السلطات الجزائرية رحبت بالقرار الفرنسي الذي صدر في سبتمبر الماضي والقاضي بتسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري الذي يزيد عمره عن خمسين عاما، ومن ضمنه وثائق الحرب الجزائرية.

كما أن الجزائر، بحسب وكالة فرانس، ظلت تطالب منذ سنوات بفتح محفوظات الاستعمار الفرنسي، وتسوية قضية المفقودين خلال حرب الاستقلال الذين يزيد عددهم عن 2200، فضلا عن ملف التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية.

"ربع خطوة إيجابية"

ويرى بوعمامة أن إقدام فرنسا على الكشف عن بعض الوثائق لن يفضي إلى أي شيء، موضحا: "ما جرى بالأساس هو مرسوم أو قرار صادر عن وزارة الثقافة وبالتالي سوف يعاني الكثير من المؤرخين والباحثين للوصول إلى تلك الوثائق إذا علمنا أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي كان قد أصدر مرسوما تنظيميا لا يرقى إلى قوة القانون، ولكنه بات سلاحا بيد الدولة الفرنسية وأمناء الأرشيف لوضع الكثير من العقبات التي تمنع من الوصول إلى الأرشيف تحت ذرائع وحجج مختلفة".

وتابع: "لو كانت فرنسا جادة في مسعاها حقا لكان الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون سار على خطى سلفه فرانسوا هولاند الذي وافق على كشف أرشيف الحرب العالمية الثانية بما يخص حكومة فيشي التي تعاونت مع النازيين، ووقتها لم يحتج الأمر إلى خطوات بطيئة وصغيرة وغير واضحة كما يحدث حاليا بشأن الكشف عن ما حدث من جرائم".

وكانت الرئاسة الفرنسية ذكرت أن ماكرون قد "اتخذ قرار السماح لدوائر المحفوظات بالمضي قدما.. ورفع السرية عن وثائق مشمولة بسرية الدفاع الوطني حتى ملفات العام 1970 ضمنًا".

وأوضح البيان أن "من شأن هذا القرار تقصير مهل الانتظار المرتبطة بإجراءات رفع السرية في ما يتعلق خصوصا بحرب الجزائر".

لكن الناشطة والحقوقية الجزائرية، مالية بوزيد تؤكد أن الآوان قد فات لذلك، وتوضح: "كما أن خطوة قانون تجريم قانون الاستعمار ستكون متأخرة، فإن الكشف عن الأرشيف الحالي أيضا سيكون متأخر ا جدا، بعد هذه العقود الطويلة، فهو ربما يكون قد تعرض إلى التحريف والتشويه أو إتلاف الكثير من محتوياته التي تدين مرحلة الاستعمار الفرنسي".

وشدد قصر الإليزيه على أن القرار بشأن الأرشيف "يظهر أننا نتقدم بسرعة كبيرة"، لكن تأثير القرار يتجاوز إطار الحرب الجزائرية، إذ أن ماكرون "أصغى لمطالب الأوساط الجامعية" التي كانت تشكو من صعوبات للإطلاع على الأرشيف السري الذي يعود لأكثر من 50 عاما، بسبب التطبيق الحرفي لمذكرة بشأن حماية أسرار الدفاع الوطنية.

وفي هذا السياق يؤكد الأستاذ الجامعي، زهير بوعمامة، أنه حتى لو جرى الوصول لتلك الوثائق، عبر القرار الصادر من وزارة الثقافة وليس عبر الرئاسة الفرنسية فهي قد تكشف جانبا من انتهاكات الشرطة وقوات الأمن الفرنسي في باريس، مردفا: "ولكن كما نعلم جميعا فإن جرائم الحرب التي ارتكبت في الجزائر نفذها الجيش الفرنسي والقوات الخاصة وبعض المنظمات الإرهابية الموالية للاستعمار، وبالتالي فإن تلك الأمور لن تكون موجودة في تلك الوثائق".

ولفت إلى أن الكشف عن جزء من الأرشيف يدخل ضمن الانتهازية السياسية، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات، وبالتالي قد تكون هذه محاولة لإرضاء الفرنسيين من أصول جزائرية من خلال مساعدتهم على مصير المفقودين والمختفين قسريا من أهاليهم وأقاربهم خلال فترة حرب الاستقلال، مردفا: "ولكن من الواضح أن التيارات السياسية الفرنسية بمختلف مشاربها من يسار ويمين ليس لديها النية الصادقة لكشف ما جرى من مجازر وجرائم ضد الشعب الجزائري لحسابات سياسية واجتماعية واقتصادية معقدة".

وتابع: "إذا رغبت فرنسا في علاقات أفضل فإن الكشف عن كامل أرشيف حرب الاستقلال يجب أن يتم من خلال لجان مشتركة مع الجزائريين لضمان الوصول إلى الحقيقة ومعرفة مدى الأضرار والخسائر البشرية والاقتصادية والبيئية، التي تسبب بها المحتل على مدى 130 عاما".

وأكد بوعمامة أن الجزائر لا ترغب فقط في الكشف عن ذلك الأرشيف مع أهميته القصوى، "بل نريد أيضا استعادة أرشيفنا الذي جرى سرقته قبل خروج المحتل من البلاد، وهو أرشيف ضخم يغطي نحو 3 قرون ما قبل الغزو الفرنسي لأراضينا".

وختم بالقول: "خلاصة الكلام، أن الوثائق المسموح بالوصول إليها في حال جرى أصلا تسهيل ذلك لن تؤدي سوى إلى  بعض الإدانات الفردية، بينما ستبقى الجرائم الكبرى والملفات الحساسة المتعلقة بالذاكرة وملايين الضحايا والألغام والتجارب النووية على أرض الجزائر.. بعيدة عن المتناول، وعليه اؤكد مرة أخرى أنه إذا  أرادت فرنسا علاقات أفضل مع بلادنا فعليها أن تقبل بفتح كل الملفات وإعادة الأرشيف الجزائري والاعتراف بجرائم الاحتلال".