"المريض صفر": من ووهان إلى باريس وميلان.. رحلة البحث المثيرة للجدل عن أصل الجائحة التي أنهكت العالم

نشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً حول رحلة بحث العلماء والخبراء عما يعرف بـ"المريض صفر" الذي انتقل عبره فيروس كورونا إلى جميع أنحاء العالم مع نهاية عام 2019.

تقول الصحيفة إنه في رحلة البحث عن أصول الجائحة، ينتهي خيط الأدلة رسمياً عند المريض صفر، أول حالات الإصابة المؤكدة بكوفيد-19 في الصين، والذي ظهرت تفاصيل متفرقة عنه في التقرير المشترك بين منظمة الصحة العالمية والصين الذي صدر في مارس/آذار الماضي. ولم يكُن هذا المريض بائعاً في سوق المأكولات البحرية، أو صائداً للخفافيش، أو عالماً في أحد المختبرات. بل كان محاسباً لقبه هو تشين، وكان يتسوّق داخل سوبر ماركت ضخم.

إذ يقول سيرغي بوند، عالم الأحياء في جامعة تمبل، الذي يُحلل بعض التسلسلات الجينية المبكرة لسارس-كوف-2: "معلوماتنا عن أصول الجائحة قليلةٌ بدرجةٍ صادمة. فنحن ننظر إلى تسلسلات قليلة للغاية ونحاول معرفة الكثير منها".
تفاصيل شحيحة وتناقض حول "المريض صفر"

التفاصيل شحيحةٌ للغاية حتى فيما يتعلّق بالمريض S01، أكثر المرضى تعرضاً للتدقيق. ويُدرجه تقرير منظمة الصحة العالمية تحت معرف التسلسل EPI_ISL_403928، الذي يخص في الأصل مريضاً مختلفاً هو عامل في السوق القديم (61 عاماً) مات بسبب الصدمة الإنتانية عقب مرضه في الـ20 من ديسمبر/كانون الأول عام 2019، وذلك وفقاً لقاعدة البيانات الرسمية من المركز الوطني الصيني للمعلومات الحيوية.

لكن ملف S01 يتطابق أكثر مع الرجل (41 عاماً) الذي أثار تشخيصه بفيروس كورونا أواخر ديسمبر/كانون الأول قلق الأطباء- ودفع بالدكتور لي وينليانغ إلى تسريب الخبر على الشبكات الاجتماعية. لكن ذلك المريض مدرج على قاعدة البيانات الصينية على أنّه سقط مريضاً في الـ16 من ديسمبر/كانون الأول. بينما قال المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية إنّ المنظمة التابعة للأمم المتحدة تبحث في هذا التناقض.

وربما تكون قلة المعلومات المؤكدة أمراً غير مرضٍ، لكنه ليس مفاجئاً بالضرورة. فرغم الرغبة الشديدة في فهم مصدر الجائحة، لكن العلماء يستغرقون سنوات طويلة عادةً في تحديد منشأ مرضٍ جديد ورسم مسار العدوى المبكر. كما أنّ الحكومة الصينية لم تُسهّل المهمة بتقييدها الوصول إلى العينات البيولوجية والسجلات الأصلية.

وقد جمع الباحثون العديد من الأدلة المفيدة- في أماكن بعيدة مثل باريس وميلان- التي قد تمنحنا لمحةً عما حدث في الأيام التي سبقت إصابة المريض S01. لكن بعض تلك البيانات غير مؤكدة ومتناقضة، ويحذر العلماء من أنّ ظهور المعلومات الجديدة قد يُغير كل شيء نعتقده الآن. ورغم ذلك، ستظل الصورة مهتزة في الوقت الراهن.

دراسات مثيرة للجدل.. أدلةٌ من أوروبا حول "المريض صفر"

قبل ثلاثة أيام من ظهور الأعراض على المريض S01، أُخِذَت مسحةٌ من فم طفل (أربعة أعوام) قرب ميلان للاشتباه في إصابته بالحصبة. وبعد عدة أشهر، ثبتت إصابة ذلك الطفل بفيروس كورونا. وهذه الحالة التي ظهرت في دورية Emerging Infectious Diseases العلمية هي واحدةٌ من عدة دراسات أوروبية تقترح أنّ الفيروس ربما كان ينتشر خارج الصين طيلة أسابيع- وربما أشهر- دون اكتشافه.

بينما وجد باحثون في فرنسا مؤشرات أقدم على الفيروس منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019؛ إذ فحص المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحث الطبي- إلى جانب مؤسسات أخرى- بأثرٍ رجعي أكثر من تسعة آلاف عينة دم مخزنة ضمن مشروع صحة عامة امتد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وحتى مارس/آذار عام 2020.

وقالت ماري زينس، المدير الطبي للمشروع: "عثرنا على أجسام مضادة في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، ولكن لم نمتلك التمويل الكافي للبحث عن فترةٍ أقدم من ذلك. وهذا مؤسف لأنّنا وجدنا في نوفمبر/تشرين الثاني سبع حالات إيجابية بين المتطوعين، ومنهم حالتان في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني".

وبعدها تأتي الدراسة الأكثر إثارة للجدل: ففي ورقةٍ بحثية منشورة بتاريخ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عثر باحثون في إيطاليا على آثار لفيروس كورونا تعود إلى سبتمبر/أيلول عام 2019، وأعلنوا أنّها ربما "تُعيد تشكيل تاريخ" الجائحة. حيث حلّل علماء من معهد السرطان الوطني في ميلان وجامعة سيينا نحو ألف عينة دماء جرى جمعها عام 2019 من تجربة فحص سرطان. وقد أبلغوا عن احتواء أكثر من 10% منها على أجسام مضادة لفيروس كورونا، بما فيها عينات يعود تاريخها إلى سبتمبر/أيلول عام 2019.

بينما وضع إيمانويل مونتومولي، أحد المشاركين في الدراسة، فرضيةً تقول إنّهم ربما عثروا على سلالةٍ "أقل قابلية للعدوى" ويمكنها الانتشار دون التسبب في جائحةٍ كبيرة. ويُشكك بعض الأطباء في هذه الفرضية، كما يقولون إنّ اختبارات الأجسام المضادة قد تمنحنا نتائج إيجابية خاطئة.

بينما اقترح مسؤولون صينيون أنّ الفيروس وصل إلى ووهان من خارج البلاد. لكن تلك النظرية لم تقابَل بالتأييد من العلماء في الدول الأخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى التشابه الجيني بين سارس-كوف-2 وبين الفيروسات التاجية الخفاشية المعروفة من جنوب الصين.

البحث في المنشأ

قدّرت العديد من الفرق العلمية أنّ التفشي ربما بدأ مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2019. ومن السهل تفويت أولى الحالات: إذ كانت الصين في أوج أسوأ مواسم الإنفلونزا في البلاد منذ أكثر من عقدٍ كامل. وتُظهر الإحصاءات الرسمية أنّه بحلول نوفمبر/تشرين الثاني كانت حالات الإنفلونزا في كافة أرجاء الصين أكثر بخمسة أضعاف من أعداد الحالات في السنة السابقة. وبحلول ديسمبر/كانون الأول، وصلت أعداد الحالات إلى تسعة أضعاف.

وقد زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مدينة ووهان في سبتمبر/أيلول عام 2019. وخلال الأسابيع التالية، استضافت المدينة دورة الألعاب العسكرية العالمية، وأكبر معرض للسيارات في آسيا، ومنتدى عالمياً لبناة الجسور، وتجمعاً دولياً لعلم المواد، وحفل لم شمل لخريجي جامعة بكين. وبحلول الـ20 من ديسمبر/كانون الأول، وبالتزامن مع سقوط عشرات العاملين في سوق المأكولات البحرية مصابين بالمرض؛ حضر مؤسس Alibaba جاك ما ومؤسس Xiaomi لي جون إلى ووهان للمشاركة في مؤتمرٍ اقتصادي.

وكانت هناك الكثير من الشائعات المبكرة. إذ قالت ستيلا تشو، إحدى سكان ووهان، لصحيفة Washington Post الأمريكية إنّها سمعت أقاويل عن التهابٍ رئوي غامض داخل مركزٍ لرعاية الأطفال يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 2109، وهو نفس يوم سقوط المريض S01 مصاباً، وقبل نحو شهرٍ من الإعلان الرسمي عن المرض. بينما قال تشو وي، أحد سكان ووهان، إنّ بعض الحالات المبكرة ربما لم يجرِ تشخيصها.

وأردف تشو: "يُساور كل المحيطين بي الشعور بأنّ الأعداد الحقيقية كانت أكثر بكثير من التعداد الرسمي. وفي البداية، كان هناك الكثيرون ممن لم يحصلوا على فرصة الخضوع لاختبار، أو لم يحصلوا على الرعاية الطبية اللازمة".

وقد تحدث تقرير منظمة الصحة العالمية عن مرضى مشتبهين من فترةٍ مبكرة، لكنه قال إنّه لم يستطع الوصول إليهم لإجراء المقابلات.

وفي توصياتهم التالية، دعا خبراء منظمة الصحة العالمية إلى مراجعة عينات الدماء المبكرة من مركز الدم في ووهان والسجلات الطبية من دورة الألعاب العسكرية. لكن منظمة الصحة العالمية لم ترد عند سؤالها حول ما إذا كانت تلك المراجعات قد جرت بالفعل. كما لم يرد مركز الدم في ووهان وغيرها من المؤسسات الرسمية الصينية على طلبات التعليق.

وفي غالبية أوقات عام 2020، كان يُعتقد أن أولى الحالات كانت لمريضٍ من ووهان سقط مصاباً في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 2019. لكن تقرير منظمة الصحة العالمية راجع ذلك: وتبيّن أنّه كان يُعاني من مرضٍ آخر في أوائل ديسمبر/كانون الأول، ثم أُصيب بفيروس كورونا هو وزوجته في وقتٍ لاحق من الشهر خلال تجمعٍ عائلي.

وبذلك حوّلت المراجعة المحاسب تشين، مع ظهور الأعراض عليه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2019، إلى أول حالة رسمياً.

مطاردة أطراف الخيوط

بحلول نوفمبر/تشرين الأول، كان فيروس كورونا قد أصاب على الأرجح عدداً قليلاً من الناس في ووهان، بحسب العلماء. وكانت المدينة تنبض بالحياة وتعج بالنشاط، مما خلق مسارات لا متناهية كان باستطاعة الفيروس أن يسلكها.

وفي الثاني من نوفمبر/تشرين الأول، جلست مجموعةٌ من طلاب برامج التبادل الإيطاليين على مكاتب زرقاء في جامعة ووهان لمحاولة تجربة فن الخط الصيني. وفي الأسبوع التالي، تجمع نحو ألفي شخص مرتدين الهانفو -الزي الصيني القديم- داخل برج يلو كرين من أجل المشاركة في مهرجان. وفي وقتٍ لاحق من الشهر ذاته احتشد نحو 200 ألف شخص، بينهم زوار من 20 دولة، لحضور معرضٍ زراعي.

وفي نفس الشهر، أجرى عالم صيني متخصص في الحفاظ على الحياة البرية زيارةً روتينية إلى سوق هوانان الذي ظل يُراقبه لعامين، وأكّد أنه ما يزال يبيع حيوانات برية تُعاني من ظروف صحية سيئة- على حد تعبير فريقه لاحقاً في دورية Scientific Reports العلمية.

وفي الـ19 من نوفمبر/تشرين الأول، عقد معهد ووهان لأبحاث الفيروسات دورةً سنوية حول تدريبات سلامة الموظفين. وناقش نائب مدير الأمن هو تشيان مشكلات السلامة التي عُثِرَ عليها أثناء المراجعات على مدار العام السابق، وفقاً لمنشورٍ على موقع المعهد.

ولم يرد المعهد على الأسئلة حول نوعية مشكلات السلامة التي ظهرت خلال تلك المراجعات. وقد نفت القيادة بشدة أنها واجهت سارس-كوف-2 قبل الجائحة، وأكدت نفيها حدوث أي تسريبات من معامل التجارب.
لا يزال البحث في أصول المرض متعثراً

ووصفت منظمة الصحة العالمية نظرية أنّ التسريبات المعملية هي التي أدت لتفشي الجائحة بأنّها نظريةٌ "مستبعدة للغاية". لكن عدداً من العلماء قالوا منذ ذلك الحين إنّهم يعتقدون أنّ هذه الاحتمالية لا تزال قائمة، وبينهم عالم الأحياء الحاسوبية جيسي بلوم.

إذ قال بلوم: "لا تزال أصول سارس-كوف-2 غير واضحة، مع وجود نظريتين مقبولتين حول كونه فيروساً طبيعياً حيواني المنشأ أو مجرد خطأ معملي". وقد تعثر البحث في أصول المرض نتيجة قلة المعلومات المبكرة، التي كان بعضها غير موثوقٍ أو مفقوداً.

كما لم يعُد بالإمكان الوصول إلى أرشيفات الإنترنت لاثنتين من الصحف المحلية الحكومية، Hubei Daily وChutian Metro Daily، في التواريخ التي تسبق الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 – وفقاً لعمليات البحث التي أجرتها صحيفة Washington Post. ولم ترد الجهات الناشرة لهاتين الصحيفتين على طلبات التعليق.

كما أثار جيسي الكثير من الجدل الشهر الماضي حين أعلن استرداده لـ13 تسلسلاً جينياً مبكراً لفيروس كورونا، بعد محوها من قاعدة بيانات بواسطة باحثين في ووهان لأسبابٍ مجهولة.

أما بوند، فقد قال إنّ ورقة بلوم البحثية تُؤكّد مدى قلة البيانات المتوافرة عن الأيام الأولى من الجائحة. وربما تسد هذه التسلسلات المستردة بعض الفجوات في عملية إعادة صياغة رحلة تطور الفيروس، لتقوي النظرية القائلة بأنّ سوق هوانان لم يكن المصدر الوحيد للتفشي بحسب بوند. إذ أوضح بوند: "إنّ عدداً ضئيلاً من التسلسلات مثل 13، رغم قلته، يمكنه أن يُدخل تعديلاً هائلاً على فهمنا لأصول الجائحة".