فاء فَتحه.. فَيروس!

لا يفهم مجتمع كالمجتمع العربي الفيروسات مع انه درسها في المرحلة الابتدائية، لهذا يبحث عن تفسيرات في نظرية المؤامرة والغضب الإلهي.

ولو استوعبنا أن الفيروسات تتطور وتتغير ضمن ظروف طبيعية معينة، وأنها "أشياء" طفيلية تعيش على غزو الخلية الحية وتدميرها والتسبب في الأمراض، لعرفنا أن الأوبئة ظاهرة طبيعة لا تحتاج تفسيرا ميتافيزيقيا يربطها بالغضب الطاريء للإله المشغول بمراقبة سلوك مخلوقاته وتأديبها.

كنت أبحث عن إجابة لسؤال محير: أعاني كل شتاء من نزلة البرد المعتادة، فلماذا لم تكتسب أجسادنا مناعة ضد الفيروس المسبب للزكام والانفلونزا مثلما اكتسب مناعة ضد امراض أخرى أخطر؟ ولماذا لم يستطع كل هذا التقدم العلمي الهائل التوصل الى لقاح أو علاج لأمراض البرد والانفلونزا؟
كانت الأجابة دائما تقودني الى ذلك الشيء الغامض (الفيروس).

الفيروس صغير جدا وبسيط جدا، مجرد مادة وراثية ملفوفة في غلاف بروتين. وإذا بسطنا الأمور وقسمنا الفيروسات الى نوعين هي فيروساتRNA وفيروساتDNA.

يتميز فيروس RNA بسرعة التكاثر. انه يتكاثر بالنسخ الى مليارات الفيروسات. لكنه عكس فيروس DNA لا يملك القدرة على تصحيح الاخطاء التي تتم في عملية النسخ، لهذا فكلما تكاثر بسرعة اكبر وباعداد مهولة كلما زادت الاختلافات في النسخ من فيروس الى آخر. تتزايد هذه الاختلافات كأن الفيروس ينسخ نفسه بآلة النسخ اليدوية القديمة (الاستنسل) التي عرفناها في طفولتنا، والتي تختلف فيها النسخة الاولى عن النسخة الاخيرة من الورقة المطبوعة بعوامل كثيرة منها كمية الحبر، وتآكل رؤؤوس الطابعة، وجودة الورق.

بعد تراكم ملايين الاختلافات البسيطة من فيروس الى آخر تظهر سلالة جديدة من الفيروس مختلفة عن الفيروس السابق.

بسبب سرعة فيروسات البرد والانفلونزا على التكاثر صار لدينا 160 سلالة مختلفة منها، وهذا هو السبب ان اجسادنا لم تكتسب مناعة ضدها، وهو السبب ايضا في عجز العلم عن التوصل الى علاج أو لقاح لها. وهو السبب اننا نصاب بالبرد مرة الى مرتين في السنة.

واللقاح الموجود يجب اخذه كل سنة ليستجيب لتطورات الفيروسات وتحولاتها. وكي نصل لمناعة مقبول ضد الانفلونزا يجب علينا إما ان نطور 160 لقاحا مختلفا للـ 160 سلالة المختلفة، واما ان نعثر على لقاح واحد يقضي على كل تلك السلالات.

ذلك هو ايضا سبب عجز العلم عن التوصل الى علاج ناجع لمرض الايدز حتى الآن. يدخل فيروس نقص المناعة الجسد فتهاجمه الاجساد المضادة لتقضي عليه، لكن لأنه يتكاثر بسرعة مع اختلافات جينية متراكمة يتحول الفيروس الى نوع جديد لم يتعرف عليه الجسم بعد، فيتفاجأ الجهاز المناعي لجسم المريض بالنسخة الجديدة من فيروس الايدز فيهاجمها، وبينما هو منشغل بالقضاء عليها يتكاثر الفيروس ويتحور الى سلالة مختلفة، وهكذا تستمر المعركة الطيلة بين الفيروس والجهاز المناعي للجسم حتى يتمكن الفيروس من انهاك الجسم واستغلال لحظة الانهاك ليهاجم الجهاز المناعي وتكون النهاية!

ما علاقة هذا برعب الكورونا الحالي؟

الخبر السيء ان فيروسات كورونا هي من وع فيروسات RNA. هذا يعني أنها تتكاثر بسرعة، وتستطيع التحول الى سلالات جديدة كلما وجدت وسيطا مناسبا لتسريع التكاثر، وانها تغير من خصائصها لمواجهة التحديات التي تواجهها مثل الاجسام المضادة أو الأدوية وبعضها قد يتحول الى فيروس مقاوم للأدوية drug resistant virus لأنه كلما تعرفت الاجسام المضادة او الأدوية على خصائص معينة فيه لمهاجمتها ، يغير هذه الخصائص ويتطور ليظهر في سلالة جدية او تنوع جديد variant.

لكي تفهم هذا يجب ان تؤمن بالتطور والانتخاب الطبيعي.
واحدة من الصعوبات التي نواجها كمسلمين في فهم ظواهر مثل الاوبئة والجوائح اننا لا نفهم التطور ونكرهه معتقدين انه فكرة معادية لعقيدتنا!

لا نحتاج الى نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية لتفسير قوة الفيروس. كان فيروس كورنا فيروسا حيوانيا لا يصيب الانسان وبسبب عوامل متداخلة في تفاعل الانسان مع الطبيعة من ضمنها تجريف الغابات واستهلاك لحوم الحيوانات البرية تطور الفيروس لينتقل من الحيوان الى الانسان (المريض رقم صفر) ثم من الانسان الى الانسان!
يعتقد ان فيروس كورونا قد تطور بعد ذلك ايضا وانقسم الى سلالتين: سلالة هادئة هي سلالة S، وسلالة شرسة ومتوحشة هي سلالة L. وربما يكون هذا سبب غموض هذا الشيء والنتائج المختلفة التي توصلت اليها دراسات مختلفة حول معدل الاصابة attack rate ومعدل الإماتهfatality rate.

نحن امام فيروس فائق الانتشار، متخف، مخادع، استطاع ان يلف 190 دولة من دول العالم خلال شهرين.. ولأننا لا نفهم بساطة الفيروس وقدرته على التخفي والخداع، لا ندرك بالضبط كيف يمكن لممارسات بسيطة مثل غسل اليدين والعزل المنزلي وتغطية الكحة والعطاس كفيلة بكسر سلسلة انتساره.

الفيروسات لها تاريخ واستراتيجيات وخدع مذهلة لاقتحاكم الخلية وتحويلها الى مصنع لنسخ مليارات الفيروسات. وهي فوق ذلك كله تعشق السفر والتنقل عبر الوسطاء الغافلين!

*من صفحة الكاتب على الفيس بوك