المحقق الاصطناعي شارلوك هولمز يكشف أعقد الجرائم
تطوير التطبيقات والخوارزميات الذكية يعزز قدرتها على التنبؤ ببعض الجرائم قبل حدوثها.
يؤكد خبراء التكنولوجيا أن التطوير المتواصل للتطبيقات والخوارزميات الذكية يمكن أن تنقل الأمن والعدالة ومكافحة الجريمة إلى عهد غير مسبوق، بل ويمكنها أحيانا التنبؤ ببعض الجرائم قبل حدوثها من خلال ربط عناصر الجرائم السابقة.
وإذا كانت الشخصية الخيالية للمحقق شارلوك هولمز، التي ابتكرها الكاتب الأسكتلندي آرثر كونان دويل، قد ارتبطت بقدرتها الخارقة على استخدام التفكير المنطقي لكشف أسرار أعقد الجرائم، فإن المحقق الاصطناعي يعد بما هو أبعد من ذلك بكثير.
ويبدو أن التطور التكنولوجي بدأ بتقديم محققين غير مرئيين، أكثر ذكاء ودهاء من هولمز، ولا يمكن مراوغتهم أثناء التحقيق أو تضليلهم بأيّ تمويه أو ابتسامة أو سلوك مراوغ.
هناك إجماع على أن مهمة المحققين ليست هيّنة، فالمحققون يتعاملون مع كم هائل من المعلومات البصرية والأدلة المادية والاحتمالات والفرضيات، التي يوظفونها جميعها للوصول إلى الجناة. ومع ذلك فإن جهودهم ليست كافية في أحيان كثيرة لفك طلاسم الجرائم الغامضة، ما يؤدّي إلى إفلات المجرمين من العقاب.
ضرورة حتمية
بدأت تتزايد الأدلة على أن قدرات المحقق الاصطناعي أصبحت تتفوّق في بعض الأحيان على المحققين البشر، في رصد الأدلة بدقة في ثنايا صور مسرح الجريمة.
وتمكّن المحقق الاصطناعي من تحليل البيانات والمعلومات في وقت قصير، وربطها ببعضها سريعا، مما ساهم في الحصول على حقائق دقيقة أفضل بكثير من التخمينات العشوائية للمحققين البشر، وهو ما يثير أسئلة بشأن مستقبل وظيفة المحقق!
ولا يستبعد خبراء التكنولوجيا أن تصبح الاستعانة بالذكاء الاصطناعي أمرا لا غنى عنه في مسارح الجرائم وأروقة المحاكم، وقد تخطو هذه الأنظمة الذكية خطوات مبهرة وشاسعة باتجاه الكشف عن أسرار بعض الجرائم وتشخيصها بشكل كامل.
وربما تفعل أكثر من ذلك بكثير، حيث يتوقّع البعض أن تمتلك هذه العقول الآلية القدرة على التنبؤ بمعظم الجرائم قبل حدوثها، الأمر الذي يتيح لأجهزة الأمن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتلافي حدوثها.
على مدى الآلاف من السنين كان تفرّد البشر بالتنبؤ بالأحداث، لكن التقدّم المذهل في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلات، مكّن من تطوير خوارزميات لديها إمكانيات فائقة في التنبؤ بالجرائم، قد تجنّب القضاة الكثير من المغالطات غير المنطقية.
كما تُوفر فهما أفضل للروابط المحتملة بين الأدلة من خلال البحث السريع في قواعد بيانات أجهزة الشرطة، والكشف عن أنماط ارتكاب الجرائم أو تشابه الأدلة أو أطراف الجريمة.
التنبؤ بالجرائم
تستخدم “خوارزميات التصنيف والتنبؤ” حاليا في العديد من المجالات اليوم، إذ يتم استخدامها في نظم كشف عمليات الاحتيال، وعمليات التسويق المستهدف لفئات معيّنة، وأيضا للتنبؤ بمستوى الأداء أو مدى الإقبال على شراء بعض المنتجات وتطوير الصناعات التحويلية.
وتستخدم أيضا في عمليات تشخيص الأمراض والكشف عن المجرمين، والتنبؤ بالكوارث الطبيعية.
وتستعين أجهزة الشرطة في العديد من الدول بخوارزميات لتحليل الصور ومقاطع الفيديو التي التقطتها كاميرات المراقبة وملفات الأدلة وسجلّات الجرائم لمواكبة الأساليب المتطوّرة التي يستخدمها المجرمون للإفلات من قبضة العدالة.
وقد ساعدت “الخوارزميات التنبؤية” شرطة نابولي في إلقاء القبض على رجل قبل أن ينفّذ جريمة سرقة صراف آلي، خطط لها في بلدة ميستر الواقعة على بعد 8 كيلومترات عن مسرح الجريمة في مدينة البندقية.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تستخدم فيها مثل تلك الخوارزميات لإلقاء القبض على أشخاص قبل قيامهم بالجرائم، فقد سبق واستخدمت شرطة دبي نظام ذكاء اصطناعي قادر على تحليل البيانات الخاصة بالشرطة واكتشاف متى وأين من المرجّح أن تحدث الجرائم.
ويعدّ ذلك خطوة مهمة في سباق ما عُرف بـ”ذروة التفرد الآلي”، وهي المرحلة التي من المحتمل أن تتفوّق فيها أجهزة الذكاء الاصطناعي على البشر، وتحتكر مجالات عملهم بشكل مذهل يفوق كل التوقّعات.
ثورة ابتكارات متسارعة
في السنوات الأخيرة زاد استخدام دول العالم لتقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير وبدأت شركات التكنولوجيا العملاقة في تطوير خوارزميات قادرة على الحدّ من انتشار الجريمة، لكن تلك الأنظمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لا تزال محدودة الانتشار والاستخدام في أنحاء العالم، رغم أنها مؤهلة لذلك.
وتعتمد أكثر من 200 وكالة لفرض القانون في الولايات المتحدة على خوارزميات طوّرها باحثون في جامعة جنوب كاليفورنيا من أجل البحث عن أدلة في شبكة الإنترنت قد تقود المحققين إلى ضحايا الاتجار بالبشر والاستعباد الجنسي.
وحقق هذا النوع من الخوارزميات نجاحا كبيرا، شجع وزارة الدفاع الأميركية على تجربة استخدامه في التحقيقات الأوسع نطاقا، للكشف عن تجار المخدرات والاتجار غير المشروع بالأسلحة والسلع المقلّدة.
كما يستخدم جهاز الشرطة في المملكة المتحدة برنامجا مماثلا طورته شركة “سيلبرايت” للطب الشرعي الرقمي، يبحث تلقائيا في الهاتف المحمول للمشتبه به عن أدلة محتملة.
ويمكن للبرنامج تحليل الصور وأنماط التواصل ومقارنة الوجوه والبيانات من عدة أجهزة، لمساعدة ضباط الشرطة في تكوين صورة مكتملة العناصر عن طرق تواصل المشتبه بهم مع بعضهم البعض. وأسهم البرنامج في الكشف عن المسؤولين المتورّطين في قضية اتجار بالبشر في تايلاند.
نتائج فورية
يرى ويليام وونغ، أستاذ التفاعل بين البشر والكمبيوتر في جامعة ميدلسيكس، أن الخوارزميات يمكنها البحث عن روابط محتملة بين القضايا الجنائية من خلال عمليات التدقيق السريع التي تقوم بها في قواعد بيانات أجهزة الشرطة، وبإمكانها تنبيه عناصر الشرطة إلى أنماط ارتكاب الجرائم والأدلة المتشابهة أو أطراف الجريمة.
وتمكّن وونغ من تطوير نظام يسمّى “فالكري” للتحليل البصري في مجال البحث الجنائي، وأصبح يستخدم في أوروبا على نطاق واسع في تحليل قاعدة بيانات الأجهزة الأمنية.
وفي عام 2018 أعلن موقع فيسبوك أنه استعان بالذكاء الاصطناعي للكشف عن نحو تسعة ملايين صورة إباحية للأطفال على شبكته في غضون ثلاثة أشهر، وأغلب تلك الصور لم تتلق شركة فيسبوك أي بلاغات بشأنها من قبل.
كما اعتمد إنستغرام على تقنيات التعرّف على النصوص والصور، بهدف الكشف عن التنمّر في الصور ومقاطع الفيديو والتعليقات. يمكن لتلك التقنيات رصد الانتقادات الموجهة إلى مظهر المستخدم أو شخصيته، وكذلك التهديدات ضد أفراد معيّنين داخل الصور وبين ثنايا التعليقات.
وفي مجال الطب الشرعي، قد تغيّر هذه الخوارزميات مجرى التحقيقات تماما، حيث يكون لتحليل الحمض النووي على سبيل المثال أثر كبير في مجال التحقيقات الجنائية.
وقد طوّر مايكل مارسيانو وجوناثان أديلمان الباحثان في معهد الأمن القومي والطب الشرعي الأميركي نظام “بيس” لتقييم عدد المشاركين في الجريمة من العيّنات المأخوذة من مكان الحادث.
ويعتمد هذا النظام على خوارزميات تمكنّت، بعد معالجة الآلاف من العيّنات التي تحتوي على بصمات وراثية، من تمييز العيّنة التي تحتوي على بصمتين وراثيتين لشخصين وبين غيرها التي تحتوي على ثلاث بصمات وراثية.
ولمواجهة التصاعد المستمرّ لحوادث إطلاق النار والجرائم المرتبطة بالأسلحة، تلجأ الآن عدّة مدن حول العالم إلى أنظمة آلية تتعقّب أصوات إطلاق النار بواسطة مجموعة من أجهزة الاستشعار للتعرّف على مصدر الطلقات النارية وتنبيه السلطات في غضون 45 ثانية من الضغط على الزناد.
ويعتمد هذا النظام الذي يسمّى “شوت سبوتر” لرصد الطلقات النارية، على ما يتراوح ما يصل إلى 20 جهاز استشعار صوتي لكل ميل مربع، لاكتشاف الدوي المميز للطلقات النارية، مسترشدا بالمعلومات عن الزمن الذي يستغرقه الصوت للوصول إلى كل جهاز استشعار للكشف عن موقع الحادثة بدقة مساحة تصل إلى 25 مترا.
وتعتمد الآن حوالي 90 مدينة، أغلبها في الولايات المتحدة، وبعضها في جنوب أفريقيا وأميركا الجنوبية، نظام “شوت سبوتر”، وتدرس مدن أخرى إمكانية تطبيقه.
وتستخدم أجهزة الشرطة هذه المعلومات لتعرف ما إذا كانت ستتعامل مع مهاجم منفرد أم مجموعة من الجناة، وما إذا كان الجناة يحملون أسلحة آلية أم أسلحة نارية معتادة.
كشف تحايل الطلبية
تمكّن أيضا فريق بحثي في جامعة كوبنهاغن من تطوير منظومة ذكاء اصطناعي تسمّى “جست رايتر” قادرة على تحليل الأبحاث الدراسية ورصد أي فقرات منقولة من أبحاث سابقة، من أجل الكشف عن عمليات الغش في الأبحاث الدراسية التي أصبحت شائعة جدا، حيث يتعمد بعض الطلاب على أبحاث ودراسات سابقة وينسبونها لأنفسهم.
ويؤكد فريق البحث إمكانية الاستعانة بالتطبيق لأغراض تتعلق بأعمال التحقيقات الجنائية، مثل إجراء عمليات تحليل للنصوص والوثائق المزيفة، التي يقوم بها خبراء التحقيق الجنائي في الوقت الحالي.
ويطمح الباحث ستيفان لورنز الذي شارك في تطوير المنظومة إلى “التعاون مع الشرطة التي تعتمد حاليا على خبراء تحليل الوثائق لرصد أوجه التشابه والاختلاف بين النصوص أثناء إجراء عملية التحليل والمقارنة”.
ويقول إن تطبيق “جست رايتر” يمكنه فحص كميات أكبر من البيانات واكتشاف الأنماط المتشابهة. ويؤكد أنه سيعود بالفائدة على الشرطة.
لكن رغم التفاؤل واسع النطاق، بشأن إمكانية مساعدة أنظمة الذكاء الاصطناعي لرجال الشرطة والقضاة في تحقيق العدالة، والحدّ من انتشار الجريمة، هناك من يحذّر من الإفراط في التفاؤل ويفضّل الانتظار إلى حين تحقيق نتائج مؤكدة.