كيف فعلها العلماء؟ كل ما تريد معرفته عن تصوير الثقب الأسود للمرة الأولى

ها هي ذي صورة الثقب الأسود التي التقطت للمرة الأولى على الإطلاق. تم التقاط هذه الصورة بواسطة فريق دولي من العلماء ضمن مشروع أطلقوا عليه تلسكوب أفق الحدث (Event Horizon Telescope). هكذا بدأ براين ريزنك مقاله الذي نشره على موقع «فوكس (Vox)» الذي يستعرض فيه الأحداث التي رافقت هذا الحدث التاريخي.

هذه هي صورة الثقب الأسود فائق الضخامة الموجود في مركز مجرة مسييه 87 التي تبعد عنا بمسافة تُقدر بـ53.49 مليون سنة ضوئية. ويبلغ حجم ذلك الثقب الأسود حوالي 6.5 مليار مرة كتلة شمسنا، كل هذه الكتلة مركزة في نقطة واحدة لا متناهية الكثافة.

قال شيبير دوليمان مدير مشروع تلسكوب أفق الحدث في المؤتمر الصحافي الذي عُقد اليوم الأربعاء للإعلان عن الصورة قال: «لقد كشفنا جزءًا من الكون كنا نظن فيما مضى أنه غير مرئي. وكما هو الحال في جميع الاكتشافات العظيمة، هذه مجرد بداية». وتزامن هذا الإعلان مع نشر ست دراسات حول الجهود المبذولة في المجلة الفيزيائية الفلكية Astrophysical Journal Letters.

في وسط هذه الصورة يوجد الثقب الأسود M87، أما الضوء المرئي المحيط به باللونين الأبيض والأحمر فيمثل المواد التي يتم تدميرها بواسطة الجاذبية الهائلة التي يتمتع بها الثقب الأسود. هذا الضوء يحيط بمدار الفوتون (photon orbit)، وهي المنطقة التي يمكن منطقيًا للضوء الخروج منها مع استبعاد حدوث ذلك. ويقع داخل مدار الفوتون ذلك أفق الحدث، وهي المنطقة التي لا يمكن لأي ضوء عبورها. يقول الباحثون: «إن حجم هذا الثقب الأسود وشكله يماثلان تمامًا ما توقعه أينشتاين في نظرياته للجاذبية».

بينما تنظر إلى هذه الصورة ضع في اعتبارك أنه ليس جسمًا، بل هو ظل أو بالوعة. يتم امتصاص الضوء الموجود في المركز بشكل لا رجعة فيه حسب ما نراه. إنها للحظة تاريخية حقًا، لقد تمكن البشر أخيرًا من رؤية شيء غامض جدًا وبعيد جدًا ومن الصعب للغاية التقاط صورة له.

قال فرانس كوردوفا مدير المؤسسة الوطنية للعلوم التي ساعدت في تمويل المشروع: «بصفتي عالم فيزياء فلكية فإن هذا اليوم يوم مثير بالنسبة لي. من السهل لنا أن ننسى أن أحدًا منا لم يرّ ثقبًا أسود من قبل. لقد امتلأت عيني بالدموع لدى رؤية هذه الصورة، إنها صورة مذهلة».

كيف استفاد العلماء من «الفرصة الكونية» لتصوير الثقب الأسود؟

السبب في كون الثقوب السوداء سوداء هو أن التفرد الجذبوي للثقب الأسود يمتص كل الضوء المحيط به. يقول ديميتريوس بسالتيس عالم الفيزياء الفلكية بجامعة أريزونا وأحد أبرز العلماء المشاركين في المشروع يقول: «كل شعاع ضوئي وكل فوتون يقترب من الثقب الأسود ينحني تجاه الثقب الأسود ويُزال تمامًا من الكون الذي نعرفه».

بهذه الطريقة يُلقي الثقب الأسود بظله على محيطه. ويوضح بسالتيس: «على الرغم من أن الثقب الأسود لا سطح له، إلا أنه يُزيل كل الضوء الذي يقترب منه، لذلك فهو يتصرف كجسم مظلم جدًا».

هناك سبب لعدم رؤيتنا مُطلقًا لصورة لثقب أسود وصولًا إلى اليوم. الثقوب السوداء ليست مظلمة فقط، بل هي في الواقع صغيرة الحجم جدًا وتحيط بها غازات مضيئة ومواد دوارة (يُطلق الثقب الأسود M87 نافورة من البلازما الساخنة يزيد طولها عن 4000 سنة ضوئية).

من الناحية العلمية يبلغ عرض الظل الذي يُلقيه الثقب الأسود M87 حوالي 40 ميكرو ثانية قوسية. الثانية القوسية تعادل 1/3600 من الدرجة. هناك مليون ميكرو ثانية قوسية في الثانية القوسية الواحدة. وبالتالي فإن الظل الذي يتسبب في الثقب الأسود صغير للغاية، لتخيل ذلك فإن حجم القمر يبلغ حوالي 46.5 مليون مرة حجم ظل الثقب الأسود M87. إن التقاط صورة للظل الذي يتسبب فيه الثقب الأسود يشبه «التقاط صورة لقرص DVD على سطح القمر من على سطح الأرض» على حد وصف بسالتيس.

لالتقاط صورة لشيء بهذا الصغر تحتاج إلى تلسكوب ضخم يعادل حجمه حجم الأرض تقريبًا. إن صورة مجرة مسييه 87 التي تم الكشف عنها اليوم هي نتيجة لتعاون دولي لمدة سبع سنوات ضمن مشروع تلسكوب أفق الحدث لبناء تلسكوب بحجم الأرض، وقد شمل هذا العمل 200 عالم وثمانية مراصد حول العالم.

كيف يعمل تلسكوب أفق الحدث؟

يروي الكاتب كيف جاءت اللحظة الحاسمة في أبريل (نسيان) 2017 عندما وجهت ثمانية تلسكوبات راديوية تقع في أنتاركتيكا وجرينلاند وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وهاواي وأوروبا في وقت واحد أطباقها إلى الثقب الأسود الموجود في منتصف مجرتنا وإلى الثقب الأسود الموجود في مركز مجرة مسييه 87.هذا الثقبان كانا أكبر ثقبين اعتقد العلماء بإمكانية الحصول على لقطات واضحة لهما في أبريل. لم يتم الإعلان بعد عن البيانات المتعلقة بالثقب الأسود الموجود في منتصف مجرتنا.

كان العلماء يبحثون عن نطاق ضيق من الإشعاع المتوقع أن ينبعث من الحلقة المضيئة من المواد الموجودة حول الثقب الأسود. وفي منتصف الحلقة المضيئة كان العلماء يأملون في رؤية صورة ظلية للثقب الأسود نفسه.

مع دوران الأرض تمكن العلماء من الاستفادة مما أطلق عليه دوليمان «الفرصة الكونية (cosmic opportunity)» لالتقاط الموجات الراديوية المنبعثة من الثقب الأسود وتكوين الصورة التي نراها اليوم.

في نهاية المطاف تمكن كل تلسكوب من التقاط كمية هائلة من البيانات التي كانت بحاجة لجمعها معًا للحصول على صورة مركز المجرة. تُشبّه الجمعية الوطنية للعلوم هذه الطريقة بتحويل التلسكوبات الثمانية إلى صحن هوائي مكافئ عملاق افتراضي.

تخيل وجود تلسكوب عاكس بسيط. في هذا التلسكوب يعكس السطح المنحني للمرآة الضوء إلى نقطة مركزية، هذه النقطة تمثل البؤرة التي تتركز فيها الصورة الملتقطة. طريقة عمل تلسكوب أفق الحدث مشابهة لذلك. وتوضح المؤسسة الوطنية للعلوم ذلك في مقطع فيديو قائلة: «عندما تتم مزامنة مواقع تلسكوب أفق الحادث يمكن في وقت لاحق ترتيبها بشكل مثالي بنفس طريقة ترتيب المرآة للضوء المرئي».

ويقول بسالتيس: «إن الحسابات الرياضية المستخدمة في تجميع الصورة تُشبه إلى درجة كبيرة ما يفعله جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) أو جهاز التصوير المحوسب بالأشعة المقطعية (CAT) عند رسم صورة لما داخل جسمك». «يلتقط جهاز التصوير بالأشعة المقطعية صورًا للأشعة السينية من جميع أنحاء رأسك، ثم يتم استخدام الحسابات الرياضية لتكوين صورة تتيح رؤية داخل رأسك». طريقة عمل تلسكوب أفق الحدث على الثقب الأسود مشابهة لذلك.

هذا التزامن بين التلسكوبات الثمانية صعب حقًا. أحد أسباب تأخر الإعلان عن الصورة الملتقطة لعامين كاملين هو أن أحجام ملفات البيانات كانت كبيرة جدًا لدرجة أنه لا يُمكن نقلها بالوسائل الرقمية، بل كان لا بد من نقل الأقراص الصلبة من المراصد لتتم معالجتها. كذلك تعذر الوصول إلى البيانات الملتقطة من مرصد أنتاركتيكا لعدة أشهر بسبب ظروف الشتاء القاسية.

سبب آخر لذلك هو أن العلماء تعين عليهم أخذ دوران الأرض بعين الاعتبار. نظرًا لأن الأرض تدور حول نفسها فإن المراصد التي يتكون منها تلسكوب أفق الحدث تتحرك بدورها، مما يتسبب في نوع من الضبابية في البيانات. تم استخدام ساعات ذرية شديدة الدقة ـ تبلغ دقتها جزء من التريليون من الثانية ـ في كل مرصد من المراصد لضمان أن جميع البيانات متواقتة معًا، وأن الصورة الناتجة ستكون واضحة.

التقاط صورة الثقب الأسود

يقول سيث فيلتشر مؤلف كتاب ظل آينشتاين (Einstein’s Shadow) ـ وهو كتاب يؤرخ مشروع تلسكوب أفق الحدث ـ في كتابه: «للحصول على هذه الصورة تعين على كثير من الأمور أن تسير في الاتجاه الصحيح».

كان من الضروري وجود بعض الإشعاعات الصادرة من أطراف الثقب الأسود، وكان عليها أن تصل إلى الأرض بدون أن تخرج من مسارها أو أن يعترضها جسم سماوي. إنها لمصادفة رائعة أن يكون حجم التلسكوب المطلوب لرؤية هذا الثقب الأسود بحجم الأرض؛ إذا احتاج علماء الفلك إلى تلسكوب أكبر من الأرض لكان هذا سوء حظ شديد.

وهنا يأتي التعاون البشري: ثمانية مراصد في جميع أنحاء العالم تعين عليها مزامنة ساعاتها بدرجة بالغة الدقة.

وبعد ذلك يأتي الحظ. يقول فليتشر: «يجب أن يكون الطقس صافيًا في جميع تلك الأماكن، ثمانية مواقع مختلفة يجب أن يكون طقسها صافيًا في ليلة واحدة، في الوقت الذي تتخذ فيه الأرض وضعًا يُتيح لجميع تلك التلسكوبات رؤية الثقب الأسود في وقت واحد».

هذه الصورة الواحدة تمثل اجتماع كل تلك الظروف معًا.

يقول بسالتيس: «الإثارة الأكبر في رأيي هي الاكتشاف. أنا متأكد أنه في أوقات كثيرة من تاريخ البشرية رأى الناس أشياءً ما لأول مرة.. وما تراه لا يُمكك ألا تراه. لقد أصبح هذا شيئًا مفروغًا منه لبقية البشرية، لبقية تاريخ البشر».

وماذا بعد؟ حسنًا، ربما يتمكن العلماء من بناء تلسكوب أكبر من الأرض من خلال إضافة تلسكوبات فضائية إلى مجموعة تلسكوبات أفق الحدث، وبالتالي رؤية ثقوب سوداء أصغر وأقرب إلى نظامنا الشمسي. يقول بسالتيس: «بهذه الطريقة سنتمكن من إجراء تجارب مماثلة على 10 أو 20 أو 30 ثقب أسود في الكون القريب منا».

يختم الكاتب قائلًا: «إن الثقوب السوداء تعد ذات أهمية كبيرة للدراسات لأنها تمثل أكثر المناطق تطرفًا في كوننا، حيث يتم من خلالها وضع النظريات الأساسية مثل النسبية العامة وميكانيكا الكم تحت الاختبار النهائي. هذه الصورة هي مجرد بداية».