نيويورك تايمز: سياسة أردوغان تدفع الأتراك للهروب للخارج

على مدى 17 عاماً، فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بالانتخابات من خلال وعوده للناخبين بتنفيذ رؤية سياسية واقتصادية تعيد لتركيا "أمجاد الماضي"، عن طريق توسيع نفوذ البلاد من خلال زيادة عمليات النشر العسكرية والتجارية، ورفع مستويات المعيشة مع سنوات من النمو الاقتصادي غير المنقطع. جاء ذلك في مقدمة تحقيق صحافي شامل نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية وقامت بإعداده الصحافية المخضرمة كارلوتا غال، مديرة مكتب الصحيفة في اسطنبول.

وتقول غال: بعد انقلاب فاشل في عام 2016، شن أردوغان حملة قمع كاسحة. وفي عام 2018، تراجع الاقتصاد التركي وانهارت العملة التركية بعد أن تم إعادة انتخابه بسلطات أكبر. وبينما يستشري وباء المحسوبية والسلطوية وينتشر إلى أعمق مفاصل في إدارته، يقوم الأتراك هذه المرة بالتصويت بشكل مختلف، حيث لم يستخدموا أصواتهم ولا أقلامهم وإنما أقدامهم.

هجرة للعقول ورؤوس الأموال

فوفقاً لإحصائيات الحكومة التركية والمحللين، ينزح الأتراك من البلاد بأعداد كبيرة، في هجرة للمواهب ورؤوس الأموال، بأسلوب يترجم حالة من فقدان الثقة، على نطاق واسع ومثيرة للقلق، في رؤية أردوغان.

وتضيف غال، البريطانية الجنسية والحائزة على جائزة "بوليتزر" للصحافة كعضو في فريق صحافي قام بتغطيات فارقة من أفغانستان وباكستان عام 2009، إنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لم يقتصر الفرار من تركيا على الطلاب والأكاديميين فحسب، بل شمل أيضاً رجال الأعمال وآلاف الأفراد الأثرياء، الذين يبيعون كل ممتلكاتهم وينقلون عائلاتهم وأموالهم إلى الخارج.

ووفقاً للمعهد التركي للإحصاء، هاجر أكثر من ربع مليون تركي في عام 2017 بزيادة قدرها 42% عن عام 2016، الذي شهد هجرة حوالي 178,000 مواطن تركي.

ويرى إبراهيم سيركجي، مدير الدراسات متعددة الجنسيات في جامعة "ريجنت" في لندن، وعدد من الخبراء يوافقونه الرأي، أن موجات من الطلاب والمعلمين سبق أن قامت بالهجرة في فترات سابقة، إلا أن الموجة الأخيرة من النزوح تبدو وكأنها إعادة ترتيب أكثر ديمومة للمجتمع، وتهدد بتراجع تركيا لعشرات السنوات إلى الوراء. ويؤكد سيركجي أنها حالة حقيقية لـ"هجرة العقول".

تزايد حالة اليأس تحت وطأة نظام أردوغان

إن هجرة المواطنين والمواهب ورؤوس الأموال حدثت بسبب مجموعة من العناصر القوية، التي تتلخص في نهاية المطاف في تزايد حالة اليأس من إمكان القدرة على البقاء في تركيا والتعايش مع وتحت وطأة نظام أردوغان.

وتشمل الأسباب الخوف من الاضطهاد السياسي والإرهاب وانعدام الثقة المتعمق في النظام القضائي وتعسف الأحكام القضائية وتدهور مناخ سوق الأعمال، الذي سادت فيه المخاوف من أن أردوغان يتلاعب بشكل غير مباشر بإدارة الاقتصاد لمصالحه الشخصية ومصالح دائرة ضيقة من أعوانه.

وبالتالي، فإنه ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية التركية منذ ما يقرب من قرن من الزمان، جرى إقصاء للعديد من أبناء الطبقة الثرية العريقة، لاسيما النخبة العلمانية، والتي هيمنت على الحياة الثقافية والتجارية في تركيا لعقود طويلة، ليحل محلهم الأغنياء الجدد القريبون من أردوغان وحزبه الحاكم.

ومن بين النماذج التي نزحت من تركيا مؤخراً، كانت ميرف بايندير، التي تبلغ من العمر 38 عاماً، والتي انتقلت إلى لندن بعدما كانت من أهم مصممي القبعات التركية في منطقة نيسانتاسي الراقية في اسطنبول.

وقالت بايندير في مقابلة أثناء رحلة العودة إلى اسطنبول الشهر الماضي لبيع منزلها، المؤلف من 4 طوابق، ولإغلاق ما تبقى من نشاط علامتها التجارية "ميرفي بايندير" الذي كانت تديره مع أمها: "إننا نبيع كل ممتلكاتنا".

شاركت ميرف بايندير بفاعلية في احتجاجات عام 2013 ضد محاولة الحكومة لتطوير ميدان تقسيم في اسطنبول. وقالت إنها لا تزال تعاني من الصدمة جراء العنف والخوف الذي اجتاح مدينتها.

وكان أردوغان آنذاك قد شجب واستنكر خروج تلك المظاهرات، ووصف المتظاهرين بأنهم "من الجانحين"، ومن ثم تعرضوا لعمليات اعتقال ومضايقات كثيرة اضطرتهم فيما بعد للهروب من البلاد.

وأضافت بايندير: "إن هناك الكثير من التمييز، ليس فقط على المستوى الثقافي ولكن الشخصية، ويشوبه غضب وعنف يستحيل التعايش معه". وشرحت قائلة: "إذا كان لديك شيء أفضل وترى أنه يتلاشى، فهو إذن مسار يائس".

آلاف الطلبات للحصول على تأشيرات عمل بالخارج

وتقدم آلاف الأتراك من أمثالها بطلبات للحصول على تأشيرات عمل في بريطانيا أو برامج التأشيرات الذهبية في اليونان والبرتغال وإسبانيا، والتي تمنح المهاجرين الإقامة إذا قاموا بشراء عقارات بمستوى معين. كما تضاعفت طلبات اللجوء في أوروبا من قبل الأتراك في السنوات الثلاث الأخيرة، وفقا لسيركجي، الذي درس هجرة الأتراك إلى بريطانيا على مدى ربع قرن.

ويقدر سيركجي أن 10000 تركي استفادوا من مزايا تأشيرات العمل للانتقال إلى بريطانيا في السنوات القليلة الماضية، مع ملاحظة حدوث قفزة حادة في عدد الطلبات منذ بداية عام 2016، حيث وصلت إلى ضعف عدد الطلبات التي تم تقديمها في الفترة من عام 2004 إلى عام 2015.

وأضاف أن طلبات المواطنين الأتراك للحصول على اللجوء السياسي قفزت 3 أضعاف في بريطانيا في الأشهر الستة التي تلت المحاولة الانقلابية، و6 أضعاف بين الأتراك المتقدمين بطلب اللجوء في ألمانيا، وفقاً للبيانات الإحصائية والأرقام الصادرة عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. كما قفز عدد الأتراك المتقدمين لطلب اللجوء في جميع أنحاء العالم من حوالي 10000 إلى أكثر من 33000 في عام 2017.

وكانت نسبة كبيرة من هؤلاء الفارين من أتباع فتح الله غولن، المعارض التركي المقيم في بنسلفانيا، والذي يتهمه أردوغان بالتحريض على انقلاب عام 2016، أو الأشخاص المتهمين بأنهم أتباع له، وغالباً ما تكون تلك الاتهامات بناء على أدلة واهية.

معاقبة جماعية.. بعد الانقلاب الفاشل

تم طرد عشرات الآلاف من المعلمين والأكاديميين من وظائفهم عقب الانقلاب، بما في ذلك المئات الذين وقعوا عريضة سلام تدعو الحكومة إلى وقف العمل العسكري في المدن الكردية والعودة إلى عملية السلام. ورحل المئات للعمل وشغل وظائف في الخارج.

لقد حاول أردوغان أن يجعل تركيا أكثر تحفظاً وتديناً، مع طبقة وسطى متنامية ودائرة ضيقة من النخب الذين يدينون به بشكل خاص لنجاحهم الاقتصادي.

وقال بيكير أغيردير، مدير شركة "كوندا" لاستطلاعات الرأي، إن هجرة رأس المال والقوى العاملة والعقول المفكرة والمواهب هي نتيجة جهود متعمدة من أردوغان لتحويل المجتمع. وإنه بفضل تقديم الإعانات وإسناد العقود التفضيلية، ساعدت الحكومة الشركات الجديدة على الظهور، لتحل محل شركات قديمة سريعاً، فيما يعد عملية "نقل لرأس المال الجاري في إطار عملية هندسة اجتماعية وسياسية".

وحذر إيلكير بيربيل، وهو عالم رياضيات يواجه اتهامات بالتوقيع على عريضة السلام وترك تركيا لتولي منصب في جامعة "إراسموس" في روتردام بهولندا، من أن تركيا تفقد مواطنيها بشكل دائم. وقال بيربيل، مستشهدا بالمناخ السياسي المستقطب في البلاد: "إن الناس الذين يغادرون لا يريدون العودة، وهذا يثير القلق بشأن مستقبل تركيا".

وأشار إلى أنه تلقى "العديد من رسائل البريد الإلكتروني من الطلاب والأصدقاء الذين يحاولون الخروج من تركيا".

وقال إرهان إركوت، مؤسس جامعة MEF في اسطنبول، التي تدرس الابتكار وريادة الأعمال، إن الطلاب يعانون من حالة يأس في حدوث تغيير، وذلك بشكل جزئي لأنهم ببساطة منذ مولدهم ونشأتهم وعلى مدى 17 عاماً، وأردوغان يتولى السلطة، ويستطرد مضيفاً: "إن هذه هي الحكومة الوحيدة التي رأوها، ولا يعرفون أن هناك إمكانية أخرى".

وقال سيركجي من جامعة "ريجنت" إن الأسر التركية تنشئ شركات في الخارج لكي يتم توريثها للجيل القادم، مضيفاً أن العديد من الطلاب في الجامعة الخاصة التي يعمل بها، يندرجون تحت هذه الفئة.

نقل أصول الثروات إلى خارج تركيا

قام ما لا يقل عن 12000 من أصحاب الملايين في تركيا، بما يعادل حوالي 12% من طبقة الأثرياء الأتراك، بنقل أصول ثرواتهم المالية إلى خارج البلاد في عامي 2016 و2017، وفقاً لتقرير الهجرة العالمي، وهو تقرير سنوي صادر عن البنك الإفريقي-الآسيوي.

وذكر التقرير أن معظم الأثرياء الأتراك انتقلوا إلى أوروبا أو الإمارات العربية المتحدة. وتم إدراج اسطنبول، التي تعد أكبر مركز تجاري في تركيا، على رأس قائمة أكثر 7 مدن في جميع أنحاء العالم تعاني من نزوح جماعي للأثرياء.

وقال التقرير: "إذا نظر المرء إلى أي انهيار كبير في تاريخ بلد ما، فإنه سيجد أنه حدث في أعقاب هجرة الأثرياء بعيداً عن ذلك البلد في أغلب الأحوال".

ووصف أردوغان رجال الأعمال الذين نقلوا أصولهم إلى الخارج مع بدء الاقتصاد التركي في التعثر بأنهم "خونة".

وحذّر في خطاب ألقاه في مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية، وهو اتحاد تجاري في اسطنبول في أبريل الماضي قائلاً: "معذرة، نحن لا نغفر. إن أيادي أمتنا ستطبق على رقابهم سواء في هذا العالم أوفي الآخرة". وأضاف أردوغان: "لا يمكن أن يكون لهذا السلوك مبرر صحيح".

وجاءت هذه التصريحات من جانب أردوغان، في أعقاب تقارير اقتصادية تفيد بأن بعض أكبر الشركات التركية يجري تصفية أصولها وتحويل أرصدتها إلى خارج تركيا. وقام العديد من هذه الشركات بإجراء تحويلات كبيرة لرأس المال إلى خارج تركيا، وسط مخاوف من أن يتم استهدافها في حملة ما بعد الانقلاب أو عندما يبدأ الاقتصاد في الانكماش.

وعلى رأس هذه الشركات تأتي شركة الأغذية التركية العملاقة "يلدز القابضة"، التي تعرضت لموجة عنيفة من الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي لارتباطها بحركة غولن.

وعقب هذه الموجة بعد فترة وجيزة، قامت "يلدز" بإعادة جدولة ديون بقيمة 7 مليارات دولار وقامت ببيع أسهم شركة تصنيع البسكويت التركية "أولكر"، إلى شركتها القابضة التي تتخذ من لندن مقراً لها، مما أدى في الأساس إلى نقل أغلبية الأسهم المملوكة للعائلة في شركة أولكر بعيداً عن متناول المحاكم التركية.

وقال محمد غون، مالك شركة محاماة في اسطنبول: "تم تهريب مليارات من الدولارات من تركيا في العامين الماضيين، خاصة بعد محاولة الانقلاب عندما بدأ الناس في الشعور بالتهديد".

بدأت بايندير، مصممة الأزياء والقبعات، في نقل شركتها ببطء إلى لندن منذ عامين. وفي تركيا كان لديها عدد صغير من العمال وصالة لعرض منتجاتها، لكنها الآن تصمم وتصنع القبعات نفسها من ورشة مستأجرة في لندن.

وقالت: "لو كان بإمكاني البقاء" في اسطنبول، حتما كنت سأكون أفضل حالاً. وأضافت أن الحياة في تركيا أصبحت متوترة للغاية، وأنها تخشى حدوث فتنة أهلية أو أن يتطور الأمر إلى حرب أهلية بين أنصار أردوغان ومعارضيه.

وتختتم ميرف بايندير حديثها قائلة إنها عندما تعود إلى اسطنبول، لا تجدها نفس المدينة التي عاشت فيها "فقد لم يعد لديها طاقة وتبدو مدينة متعبة".