التأبيـد.. أول كـوارث التمـديد

وجود مراكز القوى لا يقتصر على دول العالم الثالث أو الثاني، بل حتى الأول، ففي أمريكا يعتبر المحافظون الجدد مركز قوة محيط بالبيت الأبيض منذ قرون. وحتى في الأمم المتحدة، فإن الخمسة الكبار يعدون مراكز قوى وما حق الفيتو إلا تعبير ملون لتعبير الواسطة والمحسوبية في دول العالم الثالث، لكن المشكلة الحقيقية هي أننا في اليمن مازلنا نعتبر أن صالح هو من أوجد مراكز القوى رغم أنها موجودة من قبل مجيئه. وما لم نفهمه أن صالح عندما قام بلعب دور المحكم بين مراكز القوى فعل ذلك مضطراً حتى يتمكن من بناء المشروع الوطني بهدوء، واختار الديمقراطية والتعليم طريقاً - سواءً لتفريخ أو لترويض أو إصلاح مراكز القوى تدريجياً - وهو الاختيار الأضمن والأفضل بغض النظر عن بطئه، إلا أن الحلول التي قدمها تعتبر واقعية ومنهجية أفضل من غيرها. فمثلاً الحلول التي قدمها الحمدي عبر الضرب بالقوة العسكرية فشلت وسقط مشروعه ولم يجد له تأثيراً في الشارع السياسي، لأن حله ذاك كان بمثابة حبة الاسبرين - إن جاز التعبير - لتهدئة الصداع ثم بعد أن ينتهي مفعولها يعود الصداع بشكل أكثر من السابق وبقوة تؤدي لقتل المريض!! كذلك، فإن التخلص من مراكز القوى لايعني التخلص من شبكاتها بسهولة، لذلك فإن أفضل حل هو أن تأتي الفرصة لتقدم لنا الشبكات - وقد انحازت لجهة واحدة - بحيث يصبح من السهل تحديد تحركاتها وهو ما يحقق، عملياً، الفرصة الذهبية لتوجيه الضربة القاضية من قبل المشروع الوطني لإنهاكها كلياً. عين ترى وأخرى "عورى" لا ترى.. (مثل عربي) مغادرة صالح للسلطة، دفعت باليمنيين لأن يتعرفوا على ما كانت تخفيه المظلة التي لم يسعف الحظ صالح لإزاحتها، كما أعلن في 2006، رغم أنه بدأ فعلاً، حين قال: لن أكون مظلة للفاسدين!! وكان صالح أمام الخطوة الأخيرة لإزاحة كومة الفاسدين وبناء المشروع الوطني، إلا أنه لم يفعلها بسبب قدرة مراكز القوى على عرقلته عبر شبكة من الألغام التي فجرتها تلك النخبة بعد زراعتها من جهة، واستغلال أخطاء مراحل حكمه لكسب التأثير في الشارع من جهة ثانية، وهو ما حدا بها لأن ترفض انتخابات البرلمان 2008 وتؤجلها بهدف جر البلاد، إلى أزمة 2011. أكدت ذلك الوثيقة التي قدمتها الويكليكس والواشنطن بوست. خروج اليمنيين للشارع منقسمين حول صالح، دفع بصالح لأن يزيح نفسه ومظلته، ويكشف للناس أن قادة ثورة الشباب هم الفاسدون وثعابين ظل يقارعهم لسنوات. وحالما كشفت الحقائق، للأسف حدث العكس، فقد كان من المفترض أن يقوم اليمنيون بخطوة، أشار لهم صالح فيها، وهي أن لا يقتصر طلبهم على رحيله، لأن رحيله ليس المشكلة فعلاً، المشكلة هي في وجود مراكز القوى، التي وصفها صالح بالثعابين!! وكان من الأفضل أن يكملوا الخطوة الناقصة التي لم يتوصل إليها صالح، نظراً لمسببات كثيرة لا داعي لشرحها، ويقدموا على رفض مراكز القوة التي برزت لهم كقادة (لثورتهم الشبابية!!) أسوة بصالح وفق قاعدة السيئة تعم!! ولكنهم اختاروا أن تخص السيئات شخصاً واحداً يصرخ بملء فمه: وهؤلاء هم أيضاً شركائي وأركان نظامي، بل إنهم هم النظام.. ناهيك عن أنهم بلسان حالهم اعترفوا أنهم هم النظام السابق وأنهم من أداروا البلد فعلياً. الخطوة الناقصة هي التي سعى صالح لتحقيقها بداية - بهدوء - من 97 ومروراً بـ2003 وصولاً إلى إعلانه المباشر عنها في 2006، والتي أخرجت المعركة إلى ساحة مواجهة تقريباً، هذا الخروج دفع بالمحلل السياسي البارع نجيب غلاب في 2009 للوصول إلى احتمالية نشوب أحداث 2011.. حيث قال: المشروع الوطني الذي بدأ صالح بتبنيه فعلياً سيدفع بمراكز القوى خاصة الاسلامويات والعسكر والقبيلة إلى القيام بتحالف سري غير معلن، في سبيل التخطيط لشبه ثورة وتعطيل الديمقراطية واللجوء إلى الشارع والفوضى للتخلص من صالح. وقال أيضاً: إذا لم يقم صالح بثورة شعبية علنية ضد مراكز القوى الاسلاموية والقبلية والعسكرية، فإنها ستقود شبه ثورة ضده وستصب كل فسادها عليه ويتم تشويه صورته بشكل قاس. لا تقم بشيء ولا تعرف نهايته.. (حكمة عربية) في 2011 جاءت الجموع الشبابية لتؤكد ـ للأسف ـ استحالة قيام الشعب بعملية للتخلص من مراكز النفوذ القبلية والعسكرية الكاتمة على أنفاسه، والتي عرقلت المشروع الوطني منذ 1967، وعرقلته مرة أخرى عندما أطاحت بمشروع الحمدي 76م. وذلك لأنها لم تمتلك قيادة ثورية مركزية ولم تمتلك مشروعاً وطنياً حقيقياً ولا حتى سمات الثورة الحقيقية. وما يهمنا الآن هو أن تلك الكتل الجماهيرية أسقطت فرصتها التاريخية حين رفضت - عن جهل أو تشويش متعمد - الدخول في انتخابات ديمقراطية بعد عملية الفرز المبدئية النادرة التي حدثت وكشفت كل الجليد العائم في البحر، وحددت شبكات مراكز القوة في جهة واحدة وكان يمكن التخلص منها ومن صالح وكان المؤتمر الشعبي العام وحتى صالح نفسه سيقبل بهذا كما صرح لأكثر من مرة. يستطيع الشيطان أن يكون ملاكاً أمام الحمقى والسُّذج فقط.. (مَثَلٌ عالمي) جاءت الفترة الانتقالية وجاء عبدربه منصور ليحكم بنفس السياقات والمعادلات القائمة منذ الستينيات وحتى 97م حينما بدأ صالح بتغييرها تدريجياً. الرئيس هادي، للأسف، أخطأ الطريق مثلما أخطأ غيره، بل والأفدح أنه لم يستفد من تكشف الرؤية للجماهير ولم يستفد من الفترة الانتقالية وشعار المرحلة الراهنة، ليواصل بناء المشروع الوطني وحمايته بعيداً عن مراكز القوى بهدوء، مستفيداً من الدعم الدولي والعصا الأمريكية التي في يده لضرب من يعارضون المشروع الوطني، بل على العكس فقد أتاح لتحالفات القبيلة والإخوان والعسكر حرية العمل تحت حكمه، وأقصى القوى المدنية وعلى رأسها حزبه الذي شن عليه حرباً شعواء وكأنه ليس حزبه الذي منحه ثقة عمياء في ظرف حرج جداً، وقاد هو الآخر مشروعاً مكملاً للمشروع اللاوطني الاسلاموي الانفصالي هو المشروع الأبيني على حساب الوحدة الوطنية. صحيح أن هذا الخطأ القاتل الذي قام به الرئيس هادي، بدون قصد أو بقصد، بدَّد أحلام الجماهير من وجود شخص يواصل مشروع صالح والحمدي والسلال، وهو الدولة المدنية، إلا أنه وبنفس الوقت أعطى فرصة جديدة للشارع اليمني لأن يحدد مراكز القوى ويعرف عدوه أكثر، ومكنه لان يتعرف أكثر وأكثر على الظروف والحيثيات والسياقات والمعادلات التي كانت تحاصر صالح أو تحوم حوله بغرض جعله حاكماً صورياً ينفذ أطماعها الخاصة، وهو ما رفضه صالح، كما قلنا في اللحظات الحاسمة، خاصة اللحظات التي تمكن فيها من امتلاك القوة الكافية لإزاحتهم. قُلْ لي من هو صديقك أقل لك من أنت؟.. (مثل عربي) إذاً، فالذي حاول هؤلاء فعله في الفترة الانتقالية مكن الجماهير، مجدداً، من رؤية شبكات مراكز القوة ونفوذها. وقد تركزت في شخص واحد هو الرئيس عبدربه منصور، وهذه المرة يتحمل الرئيس هادي كل الفشل المستقبلي والحالي، لأنه يفعل ذلك دون اضطرار ودون جهل. خاصة والمواطن المتابع أصبح يعرف مصالح محسن وأعوانه، وحتى رجل الشارع أصبح يحدثك عن فساد حميد الأحمر وكيف يوظف الدولة لخدمة برجوازيته الخاصة ومشروع الإخوان المناهض للمشروع الوطني بات الجميع - بمن فيهم حلفاء المشترك - يتحدثون عن خطورته. وكان بمقدور هادي أن يكسب الجماهير في صفه ويتخلص من هذه المراكز - أو على الأقل يحد من قوتها لا أن يفعل العكس ويسعى معها للتمديد. وغالباً ما اقتصر دور هادي على تمثيل دور السفير الأمريكي وجمال بن عمر، لذلك كان من الطبيعي أن ينظر الناس للرئيس هادي على أنه لايختلف عن السفير والمبعوث الأممي في دورهما الخطير. والسؤال الآن: هل يكرر اليمنيون خطأهم ويتراجعون عن القيام بالخطوة الناقصة التي عجز عنها السلال والحمدي وصالح وعجز عنها الكثير من الشباب في 2011 رغم وضوح المعادلات الآن؟ من الواضح الآن أن غالبية، أو لنقل حوالي 80%، من مراكز الشر والفساد تجمعت حول الرئيس عبدربه منصور، وبما لايدع مجالاً للشك، فلقد تبين الآن وبشكل أكثر وضوحاً من الماضي أن تحالف القبيلة والإخوان والعسكر والقوى الانفصالية والطائفية، جميعها تشكلت حول أو في شخص الرئيس عبدربه وجميع هؤلاء يحملون مشاريع مناهضة ومناقضة للمشروع الوطني وتطلعات الشعب اليمني الواحد، وما قدمته فترة السنتين كافية للتأكيد أن هؤلاء ليسوا رجال دولة، إنما مراكز وبؤر فساد شامل وكامل، بدليل أنهم حولوا (أو توافقوا) مع رئيس الدولة ليصبح أداة ينفذ أجندتهم الخاصة والتي أوصلت البلاد للانهيار الاقتصادي والأمني ....الخ، من انهيارات عمودية وأفقية. ناهيك عن أنهم رغم الفشل الواضح، والذي لا ينكره إلا أعمى أو يريد التعامي بقصد، يسعون لتمديد فترته الانتقالية والتي هي بالأصل فترتهم الكفيلة بإعادة إنتاج أنفسهم وتعويض ما خسروه خلال حربهم مع الرئيس السابق. الأقوياء من يستفيدون من أخطاء غيرهم.. (بسمارك) موحد ألمانيا التمديد يعني ضياع الفرصة الأخيرة لليمنيين للتخلص من كافة رموز الفساد التي تجمعت وظهرت، فاردة أجنحتها بكل وضوح، متحدية الشعب وخياراته وضاربة بالمشروع الوطني المدني عرض الحائط لدرجة أنها استخفت بكل من وقف في الساحات الشبابية، كما ظهرت تصريحات حميد الأحمر حينما وصف الساحات بالكازينوهات والمراقص التي تجمع العاهرات والساقطين فيها. أما لماذا التمديد يعني ضياع الفرصة الأخيرة؟! فذلك لأن اليمن على وشك انهيار دائم نظراً لغياب الدور الوطني ورموزه، ممثلاً بوجود تيار وطني مناهض ومعارض لهذه الرموز ومراكز القوى. وبالتالي فإن إلغاء الانتخابات وتأجيلها لمدة سنوات يعني ضياع حق المواطن في التخلص من منظومات الفساد المتراتبة منذ عقود، عجز الكثير عن التخلص منها نظراً لتشعبها في شبكات مصالح وصراعات ومعادلات معقدة، قديماً ـ ستعيد إنتاج نفسها بالطريقة القديمة في ألوان وأشكال جديدة أحادية المضمون. فيما الفرصة مواتية له الآن وفوراً للتخلص منها بعد أن تشكلت في جهة واحدة وشخص واحد لا يجرؤ حتى أن يقوم - بما لا يدع مجالا للشك - بأفعال تثبت أنه فعلاً قادر على تحقيق المشروع الوطني وغير متهاون أو متواطئ مع مراكز القوى بوجهيها الاسلاموي والقبلي. لا تدع أخطاء الماضي تعيقك عن رؤية أخطأ الغد.. الخطوة الأخيرة التي يحتاجها اليمنيون كانت بحاجة إلى عملية فصل بين الصراع وأطرافه.. بين الحق والشر بكافة رموزه. وهاهي فرصة 21 فبراير القادمة الخطوة التي يجب أن يخطوها اليمنيون ويبدأوا عبر الديمقراطية بإزاحة 80% من منظومات الفساد التي لا يمكن إزاحتها دفعة واحدة إلا وقد تجمعت في سلة واحدة وصار من السهل فرزها عبر تأشيرة قلم في ورقة صغيرة توضع في صندوق، بطريقة حضارية وراقية، وليس بندقية وثورة فوضوية وعدمية تسبب بانهيار البلد. السؤال الحقيقي الآن هو: هل ينوي اليمنيون التخلص من بيت الأحمر والقبيلة والإخوان وعلي محسن وثكنات الفساد العسكرية والدينية القبلية؟ أم أنهم بلهاء ويتاجرون بشعار محاربة الفساد متاجرة الكاذبين الحقراء والأنجاس؟ هذا ما ستبينه الأيام القادمة. الأسماك الميتة وحدها من تسبح مع التيار.. (حكمة عالمية) تجدر الإشارة إلى أن من خطط لثورة الشباب وجنى ثمارها، فإنما تحقق له ذلك لأنه كان يعلم تماماً كيف يخطط وما الذي سيواجهه وما يمكنه فعله لرد الأمور لصالحه، ولذلك كان من الغباء أن نصدق من يقسمون بشرفهم أن ساحاتهم ستتخلص من قيادات ثورتهم الفاشلة. فهل نعود للتغابي الذي رفضناه، ونسبح مع تيار التمديد ونقسم بشرفنا أنه يعني التخلص من رموز الفساد ومراكز القوى وبناء المشروع الوطني؟ خاصة وان هذه القوى التي نريد التخلص منها هي من خططت لجر الحوار الوطني لخانة التمديد من اللحظة الأولى التي استلموا فيها الحكم، وهي الآن واقفة بكل جرأة في مشروعها الانقلابي على الفترة الانتقالية وماضية نحو التمديد دون أي اعتبار لما تم الاتفاق عليه في المبادرة الخليجية. ودون مراعاة لحقوق الشعب في الاختيار والاستفتاء، هل نحن أسماك ميتة فعلاً نسبح مع تيار التمديد مثلما سبح أولئك مع تيار الثورة الشبابية؟ علينا أن لا ننسى أن من خطط للتمديد يدري تماماً أن التمديد سيجري في النهاية لصالحه، ولذلك لا تفكروا أن التمديد مشروع وطني أبداً، لأن المشروع الوطني واضح، وأساسه العام وأصله هو الشعب، ومن يتجاوز الشعب ويلغي حقه ويتلاعب عليه فمحال أنه مع المشروع الوطني. ومن ينكر هذا فلابد أنه ممسوس، ويجب نقله لمصحة عقلية قبل أن نسمح له بالتحدث في شؤون ومستقبل بلادنا. المصدر: أسبوعية المنتصف.