الدكتور سيف العسلي: تأملات رمضانية في القرآن | (2) معرفة النفس

معرفة النفس

النفسُ هي الذاتُ البشرية التي يصدر منها الخير أو الشر. فما من خيرٍ في هذه الأرض إلا ومصدره نفسٌ بشرية، وما من شر إلا ومصدره كذلك نفس بشرية. من الخير العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومن الشر الفحشاء والمنكر والبغي.

إذاً، النفس هي نفسي ونفسك ونفوس الآخرين. فهل عرفنا أنفسنا على حقيقتها؟ ربما لا، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب السعي لمعرفة أنفسنا. أنفسنا التي لا نعرفها تخدعنا وتظلمنا، وتهلكنا، وتمكربنا، وتذيقنا كل أنواع العذاب والمكاره. وأنفسنا التي نعرفها، تجنبنا كل ذلك، وتقودنا إلى الفوز والفلاح والعلو والرفعة. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)). (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.

النفس كما صورها الله في القرآن، هي على ثلاثة أنواع:
• النوع الأول: النفس المطمئنة. وهذه هي نفوس الذين أنعم الله عليهم.. يقول الله تعالى في سورة البقرة: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)).

أصحاب الأنفس هذه، هم الذين يتعرفون على أنفسهم، فيعرفون قدراتهم ويدركون نقاط ضعفهم. فهم لا يتكبرون على غيرهم ولا يذلون وينبطحون لهم. (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ). (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)).

ونماذج هؤلاء هم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون وحسُن أولئك رفيقاً.

• النوع الثاني: النفس المتكبرة. وهي التي لا ترى إلا نفسها، فلا ترى الله، ولا الكون، ولا الآخرين. فما يصدر منها فهو الخير والعلم والشرف وكل المحاسن، سواءً كان في الحقيقة كذلك، أم لم يكن. بل في الحقيقة فإنه لا يصدرعن هذه الأنفس إلا الإثم والفحشاء والسوء. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)). هؤلاء هم الذين غضب الله عليهم، وغضب الناس الأسوياء عليهم، وغضبوا هم على أنفسهم.

نماذج هذا النوع هم الشيطان وأولياؤه من الجن والإنس. هؤلاء مأواهم النار وبئس المصير. وكم من الناس في هذه الأيام من يقع في فخ الشيطان هذا. فمن يفاخر بأجداده حتى الصالين منهم على الآخرين، فهو من هذا النوع. ومن يفاخر بأنه عربي ويتكبر على غير العرب، فهو من هذا النوع. ومن يفاخر بأنه يمني، ويتكبر على غير اليمنيين فهو منهم. ومن يفاخر أنه جنوبي على الشمالي، فهو منهم. ومن يفاخر بأنه تعزي على غير التعزين، فإنه منهم، ونعوذ بالله من ذلك.

• النوع الثالث: النفس التي سُلبت بشريتها منها، فهي لا تعرف قدرها، وبالتالي فإنها تكون مؤمنة مع المؤمنين وشيطانية مع الشياطين، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)).

ونماذج هذه الأنفس في أيامنا هذه كثيرة. فمن ينبطح للشرق أو الغرب فهو يحمل هذه الأنفس. ومن يعجبون بالأشخاص لمجرد أنهم لديهم المال والقوة، فينبطحون لهم، فهم من حملة هذه الأنفس. ومن يقاتلون ولا يعرفون لما يقاتلون فهم من حملة هذه الأنفس. ومن يتفرجون على ما يجري انتظاراً لمن يفوز، فهم من حملة هذه الأنفس.

ينبغي علينا أن نغتنم هذا الشهر الكريم، وقراءة القرآن فيه بتدبر لنتعرف على أنفسنا. فإن كانت قريبة من النوع الأول، فنحمد الله على ذلك، ونتواضع من حيث أن نسعى إلى مساعدة الآخرين على التعرف على أنفسهم ولا نتكبر عليهم.

وإن كانت أنفسنا قريبة من النوعين الأخيرين فنتداركها، ونسأل الله أن يعيننا على تزكيتها ونسعى إلى ذلك بكل الوسائل الممكنة ومنها قبول نصائح ومواعظ من نعتقد أن أنفسهم من النوع الأول.

نسأل الله أن يعرفنا على حقيقة أنفسنا، لا نغتر بها فتهلكنا. ومن لا يسعى إلى ذلك في رمضان، فقد فاتته فرصة كبيرة لا يستطيع أن يعوضها إلا في رمضان القادم.. ومن يضمن أن يبقى إلى ذلك الوقت.

اقـــــرأ أيضاُ للدكتور:

- الدكتور سيف العسلي: تأملات رمضانية في القرآن | (1) الاحتياج إلى الله