معركة الحديدة: الدور الإنساني والسياسي لموانئ البحر الأحمر (1-3)

"هذا المرصد السياسي هو الأول من سلسلة من ثلاثة أجزاء حول حملة البحر الأحمر التي تلوح في الأفق بين القوات العسكرية اليمنية المدعومة من التحالف الخليجي والقوات الحوثية. ويركز هذا المقال على المخاطر الإنسانية والعملياتية والتصعيدية. وسوف يتطرق (الجزء الثاني وننشره لاحقا) إلى التحديات العملياتية التي تواجه الجانبين حول ميناء الحديدة. وسيبحث الجزء الثالث خيارات الحوثيين لتوسيع الحرب إذا ما تم تهديد إمكانية وصولهم إلى البحر".

في الأول من أيار/مايو، دعا المندوب الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة خالد حسين اليماني الأمم المتحدة إلى السعي لوضع ميناء الحديدة تحت الإشراف الدولي. وجاءت الدعوة في الوقت الذي بدأت فيه القوات المسلحة اليمنية بتنفيذ عمليات هجومية جديدة للتقدم لمسافة 140 كلم نحو الحديدة من الشمال، بمساعدة من المملكة العربية السعودية، و100 كلم من الجنوب، بدعم من الإمارات العربية المتحدة.

أسباب الأزمة الإنسانية في اليمن

تعاني المناطق اليمنية التي تقع تحت سيطرة المتمردين الحوثيين - وهي المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان - من أزمة إنسانية حادة. وحتى قبل أن تبدأ الحرب في عام 2015، كان اليمن على شفير كارثة إنسانية، لكن تحليل إحصاءات "برنامج الأغذية العالمي" لعام 2017 يشير إلى أن الحرب قد زادت عدد اليمنيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بنسبة تتجاوز الضعف لتصل إلى 17.8 مليون شخص (64٪ من السكان مقابل 31.5 ٪ في عام 2010)، ويشمل ذلك 7 ملايين شخص (25.1 ٪ مقابل 11.8 ٪ في عام 2010) الذين تم تقييمهم على أنهم يعانون حالة شديدة من انعدام الأمن الغذائي.

وتُعزى الأسباب الرئيسية للأزمة إلى انهيار جدول الرواتب الحكومية داخل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون منذ عام 2015 والضرائب التي يفرضها الحوثيون على المواد الغذائية التي تدخل مناطقهم، كما هو موثق من قبل فريق خبراء الأمم المتحدة، بالإضافة إلى كمية الأغذية القليلة التي تصل إلى اليمن عبر ميناء الحديدة، الأقرب إلى مناطق الحوثيين. (في أيار/مايو 2016، استوردت الحديدة 543,782 طناً مترياً في الشهر. وفي الربع الأول من عام 2018 هبط المتوسط ​​الشهري إلى151,917 طناً مترياً فقط). ومع اقتراب معركة الحديدة، فإن السؤال الجوهري لصانعي السياسة في الولايات المتحدة هو ما إذا كان تحرير الميناء سيحسّن الوضع الإنساني أم يزيده سوءاً.

وفي محاولة لتحسين فهم هذه المسألة القائمة على البيانات، أجرى كاتب هذه المقالة دراسةً استقصائيةً شملت كل من "التحالف الخليجي" والحكومتين الأمريكية والبريطانية، بالإضافة إلى مقاييس المنظمات غير الحكومية بشأن الواردات عبر الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون، والموانئ الواقعة تحت سيطرة الحكومة، والحدود البرية الخاضعة لسيطرة الحكومة والمطارات. وركّزت فترة التغطية على الربع الأول من عام 2018، ويشمل ذلك سجلات مفصّلة عن 428 سفينة تم تفريغها في ستة موانئ (هي الحديدة وعدن والمكلا والصليف ونشطون والشحر)، فضلاً عن تدفقات الحدود البرية عبر منفذ الوديعة والخضراء (على الحدود السعودية) وشحن وصرفيت (على الحدود العُمانية)، بالإضافة إلى الشحنات الجوية عبر مأرب.

الحديدة ما زالت في حالة حرجة

تعتمد شحنات الأغذية والوقود المتوجهة إلى اليمن على الموانئ البحرية بشكل شبه كامل. وتشير بيانات "مركز إسناد العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن" التابع للتحالف الخليجي، والتي اطّلع عليها الكاتب، إلى أنه تم إرسال 4,757,797 طناً مترياً إلى اليمن في الربع الأول من عام 2018، حيث تم إدخال 158,870 طناً مترياً (3.3٪) فقط من خلال المعابر البرية وكمية قليلة قدرها 292 طناً مترياً عبر الجسر الجوي المدني إلى مأرب. (غالباً ما تكون بيانات السفن التي تصف الحمولة بالطنّ المتري خاطئةً، ويعزى ذلك جزئياً إلى أن قسماً من الغذاء يتم تحويله (إلى مقاصد أخرى) قبل وصوله إلى اليمن بسبب الفساد القائم. ومع ذلك، فعلى افتراض أن هذه الخسارة متعادلةً تقريباً عبر كافة السفن المتجهة إلى جميع الموانئ، فيجب أن يكون التوازن النسبي بين الموانئ ذا مغزى). كما أن توزيع الواردات الغذائية عن طريق البحر التي يقدمها "مركز إسناد العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن" يؤكد الدور الحاسم للموانئ الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

الموانئ الحوثية:

لا يزال ميناء الحديدة، وهو الميناء الأول للحمولات الثقيلة في اليمن، يشكّل مدخلاً حيوياً للأغذية، حيث تلقى 455,751 طناً مترياً في الربع الأول من عام 2018. ومن جهة أخرى، سجّل ميناء الصليف، الميناء الآخر الذي يسيطر عليه الحوثيون، 182,403 طناً مترياً إضافياً في الربع الأول من عام 2018. ووفقاً لـ "مركز إسناد العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن"، وصل مجموع المواد الغذائية التي تم تفريغها من الموانئ الحوثية إلى 638,154 طناً مترياً خلال الربع المذكور. وكمرجع قياسي، تشير إحصاءات "آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش" في اليمن إلى أنه تم تفريغ 672,555 طناً مترياً من المواد الغذائية من سفن "فُرّغت وأبحرت" في كل من ميناء الحديدة والصليف، وهو رقم أعلى لكنه قابل للمقارنة تقريباً.

الموانئ الخاضعة لسيطرة الحكومة:

يوفّر ميناءان حكوميان فقط كميات كبيرة من الأغذية، وهما: ميناء عدن (الذي سجّل 255,626 طناً مترياً في الربع الأول من عام 2018) والمكلا (68,310 طناً مترياً). ووصل مجموعهما إلى 323,936 طناً مترياً خلال الربع المذكور، مسجّلاً 50.7٪ فقط من واردات الأغذية التي تم تسليمها عبر الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون. وسجّل الاستيراد البري للأغذية بواسطة الشاحنات عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة 107,782 طناً مترياً إضافياً في الربع الأول، ويشمل ذلك 72,738 طناً مترياً عبر المعبر الحدودي السعودي في الوديعة.

ويعني ذلك كله أن "مركز إسناد العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن" لا يشكّل، كما أشير، طريقةً ناجحة تحل محل كل من ميناء الحديدة والصليف كمركز للاستيراد الغذائي. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ تعزيز المنافذ الحكومية قد عاد بالنفع على واردات الوقود (751,173 طناً مترياً في الربع الأول من عام 2018 مقابل 540,964 طناً مترياً تم تفريغها في موانئ الحوثيين) وأفادت أيضاً بصفة خاصة السلع الاستهلاكية (1,377,501 طن متري في الربع الأول من عام 2018، وفقاً لـ"مركز إسناد العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن"، وهو ترتيب يفوق النسبة المستوردة في الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون والتي تبلغ 9,474 طناً مترياً).

فوائد تحرير الحديدة

لا يوجد في الوقت الحاضر أي احتمال ملموس لاستبدال تدفقات الأغذية من الحديدة والصليف. فالموانئ الأخرى مثل عدن بعيدة جداً عن المراكز السكنية التي يسيطر عليها الحوثيون، ولا تستورد سوى القليل جداً من الأغذية بسبب الفساد وعدم الكفاءة، وهي نفسها عرضةً لانعدام الاستقرار المحلي. فعندما تم إغلاق موانئ البحر الأحمر مؤقتاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، سجّل "برنامج الأغذية العالمي" ارتفاعاً حاداً بنسبة 10٪ في أسعار المواد الغذائية في كانون الأول/ديسمبر، وارتفاعاً بنسبة 6٪ في الشهر التالي بسبب التخزين الاحتكاري والتلاعب في الأسعار، على الرغم من إعادة فتح الموانئ بسرعة لعمليات الشحن. وفي هذا الإطار، يُذكر أنّ إمدادات الأغذية المحلية في الحديدة نفسها - مدينة مكتظة بالسكان قد يصل عددهم إلى 700 ألف نسمة - من المحتمل أن ينخفض بشكل كارثي خلال المعارك.

ومع ذلك، فإنّ التقاعس في الحديدة سيسفر عن تكاليف باهظة. وطالما بقي الميناء تحت سيطرة الحوثيين، لن يعود تجار الأغذية والشاحنون لأنهم يخشون المعاملات المضنية والبطء في إنجاز المعاملات الورقية ومخاطر الحرب والضرائب التي يفرضها الحوثيون. أمّا إذا تم تحريره، فيمكن توسيع قدرة الميناء بسرعة، لا سيّما إذا تمت عملية التحرير عاجلاً وبدقة. ويشار إلى أن سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة هم أفضل حالاً من سكان المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ويعزى ذلك على وجه التحديد إلى إعادة اتصالهم بالموانئ العاملة، وبشكل جزئي إلى نظام الرواتب الحكومية. وبالتالي، سيستفيد الناس في الحديدة من هذا التحرير. كما أنهم "يريدون" أن يتم تحريرهم لأن الحوثيين ليسوا سكاناً محليين في منطقتهم، في حين أن القوات اليمنية المتقدمة تتضمن أعداداً كبيرة من "قوات أمن البحر الأحمر". أخيراً من المرجح أن تنخرط الحكومة اليمنية والتحالف الخليجي في محادثات سلام حسنة النية إذا لم يخشوا وجود دُوَيلة حوثية مرتبطة بإيران عن طريق البحر.

سياسة الولايات المتحدة تجاه الحديدة والموانئ الأخرى

بالإضافة إلى تقليص احتمال وقوع مجاعة، يتعين على الولايات المتحدة التركيز على إنهاء الحرب في اليمن، التي تشكّل تشتيتاً مكلفاً ومدمراً لحلفاء الولايات المتحدة في الخليج. لكن من غير المرجح أن يتخلى التحالف اليمني-السعودي-الإماراتي أو الحوثيون عن المنافسة الشديدة لبسط سيطرتهم على الموانئ. وتقترب المعركة لا محالة من الحديدة يوماً بعد يوم، وأمام واشنطن ثلاثة خيارات:

الخيار الأول: تجميد التحرّكات العسكرية في البحر الأحمر دون تقديم حلّ. يكون الخيار الأسوأ أن تواصل الولايات المتحدة معارضتها من وراء الكواليس لعملية عسكرية حاسمة تقودها الإمارات العربية المتحدة لتحرير الحديدة وساحل البحر الأحمر، في حين لا تقدّم أيّ بديل. وقد يجذب هذا الخيار البعض لأنه لا يترتب عليه أيّ تكاليف أو التزامات أمريكية مباشرة، ولكن من المرجح أن يطيل أمد الحرب والمعاناة الإنسانية. وسيستمر الشاحنون والتجار بتجنّب الحديدة حتى يتم إيجاد حلّ لمستقبل الميناء. وسيزحف التحالف الخليجي باتجاه الموانئ، كما يحدث الآن، ذلك لأنّه ربما لا يستطيع دعم أيّ اتفاق سلام في اليمن يمنح الحوثيين، ككيان مشابه لـ"حزب الله"، حرية الوصول البحري المباشر إلى إيران، ولأنّ نظام التفتيش البحري للشحن قد أثبت بأنه غير عملي. وقد شكّل خيار "الاستنزاف" هذا سياسة الولايات المتحدة خلال أغلبية العامين الماضيين، ولم يساعد إلا في منع ظهور الحديدة كالمركز الأكبر لاستيراد المواد الغذائية في اليمن. ولن يستعيد قدرته على إمداد شمال اليمن بالأغذية قبل أن تتم إزالة الحوثيين من الحديدة، حيث يبتزّون الميناء ويسيئون إدارته.

الخيار الثاني: نزع السلاح في موانئ الحوثيين في ​​البحر الأحمر. قد يتمثل السيناريو الأفضل في نزع السلاح من موانئ البحر الأحمر تحت مراقبة الوكالات الدولية واليمنيين المحليين - أو ما يُعرف بمبادرة الحديدة التي أطلقها اليمن مرةً أخرى في الأول من أيار/مايو. فإذا تم نزع السلاح في الحديدة، هناك إمكانية لاتخاذ سلسلة من الخطوات الإيجابية. وقد يتم تجنّب تعرّض الميناء للأضرار بشكل كامل. ويمكن لتحالف الخليج إصدار توجيهات طويلة الأمد لمشغّلي الشحن وتجّار المواد الغذائية، مما يشير إلى بقاء الميناء مفتوحاً. وقد تنخفض تكاليف التأمين إذا ضمنت الجهات الدولية الفاعلة أمن الميناء، وبالتالي، فوفقاً لـ "آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش" في اليمن، قد يعود الميناء بسرعة إلى مستويات الاستيراد السابقة - التي غالباً ما كانت تصل إلى 1.6 مليون طن متري في كلّ ربع. وطالما يتمّ شمل الصليف، فربما يكون الائتلاف الخليجي مستعدّاً للنظر في هذه النتيجة، لأنّه سيسمح بفحص الشحنات البحرية بشكلٍ أكثر فاعليةً وأقل إثارةً للجدل، مما يقلّل إلى حد كبير من مخاوف التحالف بشأن إعادة التزويد بالقذائف الإيرانية عبر الميناء. ويمكن للولايات المتحدة أن تشير إلى المجتمع الدولي بأنّ هذه هي الفرصة الأخيرة لتجنّب العمليات العسكرية الهادفة إلى تحرير الميناء، وأنّ واشنطن لن تتمكّن من ثني اليمن والتحالف الخليجي عن إطلاق عملية حاسمة في غياب التقدّم الدبلوماسي الفوري في الحديدة.

الخيار الثالث: دعم التحرير السريع للموانئ. إذا فشل المجتمع الدولي في تبنّي مبادرة الحديدة، سيشهد هذا الصيف عمليات عسكرية مكثفة بالقرب من الحديدة والصليف. وفي ضوء هذا التطوّر، يمكن القول إن المصالح الأمريكية ستتغير: يجب أن تكون مدة القتال قصيرةً وحاسمةً وبأقل نسبة خسائر ممكنة. ويتعيّن الحفاظ على تكتيكات التخريب المعروفة بـ "عملية الأرض المحروقة" والأضرار الجانبية إلى أدنى حدّ ممكن (كما سيتم مناقشة ذلك في الجزء الثاني من هذه السلسلة). وإذا تم شنّ معركة في الحديدة، فقد تنظر الولايات المتحدة إلى تحرير الميناء باعتباره أفضل طريقة لإنقاذ الأرواح في اليمن عن طريق تقصير الحرب ومعالجة المزيد من السلع بسبب زيادة كفاءة التفتيش على البضائع على الشاطئ. وبالاستناد إلى السلطات الدفاعية لحماية حلفاء الخليج والممرات البحرية العالمية، فقد يقتصر الدعم الأمريكي على إجراءات سلبية مثل الكشف عن إطلاق الصواريخ الحوثية والألغام البحرية التي ينشرها الحوثيون والهجمات المضادة التي يقومون بهاعلى ساحل البحر الأحمر.

ومن شأن الدعم المقدّم من قبل الحراسة البحرية متعددة الجنسيات والسفن التجارية التي تحمل رافعات مدمجة أن يعيد الحديدة بسرعة إلى ميناء حاويات قادر على أداء مهامه. ومُقابل مساندتها القوية، على واشنطن أن تستخلص ضمانات مسبقة صارمة من السعودية والإمارات بأنّه عند تحرير الحديدة والصليف سيدعم التحالف الخليجي وقف إطلاق النار الفوري مع الحوثيين المحاصَرين حالياً في المناطق غير الساحلية ومساندة عملية الوساطة من قبل الأمم المتحدة.

*مايكل نايتس هو زميل "ليفر" في معهد واشنطن، وقد عاد مؤخراً من زيارة إلى اليمن ودول التحالف الخليجي، حيث تلقى بيانات مفصلة عن الأغذية والوقود وغيرها من المستوردات اليمنية