حرب المخابرات الروسية على الجواسيس في الغرب

تصر روسيا على نفي أي علاقة لها بتسميم العقيد السابق في المخابرات العسكرية الروسية سيرغي سكريبال، في مدينة ساليسبري جنوبي بريطانيا، طالبة بذلك من المجتمعات الغربية شيئا مستحيلا وغير منطقي، وهو تحول الأنظار إلى موسكو بعد كل حادثة من هذا النوع.
 
وسكريبال هو عميل مزدوج، عمل على نقل معلومات حساسة عن الأجهزة الأمنية والمخابراتية والقوات المسلحة في روسيا، قبل أن يكتشف أمره ويحاكم ويسجن في روسيا.
 
لكنه أفرج عنه، مع جاسوسين آخرين، عام 2010 في صفقة تبادل مع 11 جاسوسا روسيا اعتقلوا في الولايات المتحدة. وبعد الإفراج عنه قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن سكريبال “خان رفقاء السلاح وخدع قادته. أعدكم أن نهايته، وغيره من الخونة، ستكون سيئة”.
 
ومنذ إطلاق سراح سكريبال، توفي تباعا شقيقه الأكبر وزوجته وابنه المقيمون جميعا في روسيا. وتقول السلطات إنهم ماتوا لأسباب طبيعية، لكن العائلة تشكك في ذلك، باعتبار أن ظروف موتهم كانت غامضة.
 
واليوم تتعقب المخابرات البريطانية ووحدات مكافحة الإرهاب “شبكة” من القتلة المحترفين، تعتقد الأجهزة الأمنية أنهم متورطون في استهداف سكريبال وابنته يوليا الأحد الماضي بغاز أعصاب “نادر للغاية”، بعدما تناولا وجبة الغداء في مطعم “زيزي” الإيطالي الشهير، ثم قضيا وقتا في حانة محلية بالقرب من الحديقة العامة التي وجدا مستلقيين فيها على مقعد.
 
وتوصلت السلطات، بعدما فحصت العينات التي سحبت من سيرغي ويوليا في معامل خاصة تابعة لوحدات الحرب الكيميائية في الجيش البريطاني، إلى نوع غاز الأعصاب الذي استخدم في الحادث، لكنها لم تعلن بعد عنه.
 
ومثل هذه العمليات لا تتم في العادة إلا بعد اتخاذ القرار من قبل مستوى سياسي عال في روسيا، وهو ما رجّح كفة وجهات النظر التي تصرّ على أن بوتين قد يكون هو من أعطى الأمر بشكل مباشر لاغتيال سكريبال.
 
وأثبتت تحقيقات أجرتها لجنة أمنية بريطانية أن بوتين يقف وراء اغتيال العميل السابق في المخابرات الروسية “أف أس بي” ألكسندر ليتفينينكو عام 2006 في أحد فنادق وسط لندن.
 
واتهمت السلطات البريطانية أندريه لوكوفوي، عميل المخابرات السابق ورجل الأعمال وعضو البرلمان الحالي، بوضع مادة “البولونيوم 210” المشع في كوب الشاي الذي كان ليتفينينكو يحتسيه معه في الفندق.
 
ويقول مؤرخون متخصصون في “حرب الجواسيس” إن سياسة بوتين كسرت قاعدة تقليدية وضمنية تتبناها جميع أجهزة المخابرات في العالم.
 
وتقوم هذه القاعدة على عدم تعقب العملاء الذين حصلوا على عفو رئاسي وتمت مبادلتهم مع عملاء آخرين، إذا ما اختاروا العيش على أراضي دولة معادية أو الانتقال إلى دولة محايدة.
 
وتهدف هذه القاعدة إلى التحكم في سير عمليات الاغتيال وعدم تركها للفوضى، كما تطمح أيضا لمنح الثقة للعملاء بالعمل في بيئة يعلمون أنهم يتمتعون فيها بقدر من حماية الأجهزة التي يعملون لصالحها.
 
والعمل الاستخباراتي في حد ذاته مصنف كأحد الأعمال غير القانونية ومجرم على مستوى العالم، لكن في نفس الوقت يتمتع عملاء المخابرات بالعمل بحرية، خصوصا في بيئات معادية، بشرط عدم اكتشافهم أو القبض عليهم.
 
الفاعل يبقى مجهولا
 
في عام 2013، عثر على رجل الأعمال والسياسي الروسي بوريس بيريزوفسكي مشنوقا في حمام منزله بإحدى ضواحي لندن. وتعتقد الشرطة البريطانية إلى الآن أن بيريزوفسكي، الذي كان مؤيدا لبوتين قبل أن يغير ولاءاته وينقلب عليه بعد انتهاء فترته الرئاسية الأولى، أقدم على الانتحار، لكن المخابرات الأميركية تشك في أنه تعرض للاغتيال.
 
وقبل بيريزوفسكي بستة أعوام، عثر على شريكه رجل الأعمال الروسي يوري غولييف، الذي كانت تصفه وسائل الإعلام الروسية بـ”عدو الكرملين”، مقتولا في شقته في لندن، بعد عامين فقط من توجيهه انتقادات لاذعة لطريقة حكم بوتين وسياساته.

وفي عام 2014 عثر على جثة سكوت يونغ، الملياردير وسمسار العقارات، والصديق المقرب لبيريزوفسكي، مطعونة بوتد حديدي من سياج منزله، بعدما سقط من نافذة في الدور العلوي لمنزله.
 
وأغلقت القضية بعدما اعتقدت الشرطة البريطانية أن يونغ انتحر، لكن تقارير جنائية وأخرى مصدرها المخابرات الأميركية، أكدت أن يونغ تعرض للاغتيال على يد المخابرات الروسية، مثلما كان يخشى دائما.
 
ومع الوقت صار واضحا أن روسيا تستهدف فئتين محددتين: رجال الأعمال وعملاء المخابرات السابقين.
 
ويقول متخصصون في الشؤون الروسية إن أغلب رجال الأعمال الذين يتم استهدافهم في بريطانيا هم شركاء سابقون لبوتين شخصيا أو كبار رجال الحكم من دائرته المقربة، الذين يمارسون أعمالا ولديهم استثمارات متداخلة مع استثمارات الدولة أو رجال أعمال يلعبون دور المقاولين أو الوسطاء لتشغيل أموال السياسيين الذين يحرصون على عدم الظهور في سوق الأعمال بأنفسهم.
 
وغالبا ما يكون الاغتيال عقاب من يعتقد بوتين أنه “خان” ثقته أو خدع مساعديه، لكن غالبية الاغتيالات تركزت في السنوات الأخيرة في لندن.
 
ويقول سياسيون بريطانيون إن السبب في ذلك هو أن بريطانيا غالبا ما تفتح ذراعيها لمعارضين روس وعملاء مخابرات منشقين، كما أن المخابرات الخارجية البريطانية “إم آي 6” تملك نفوذا قويا داخل روسيا، ولديها شبكة عملاء واسعة في مواقع وأجهزة روسية حساسة.
 
ولا تجمع بريطانيا وروسيا اتفاقية لتبادل المطلوبين، وهو ما يمنح طمأنينة للفارين من روسيا بأنهم لن يعودوا إليها مرة أخرى، لكنهم لا يدركون أن روسيا هي من ستأتي إليهم.
 
والمشكلة هي أنه من الصعب في كل الأحوال إثبات أن الحكومة متورطة في كل جريمة تقع في الخارج عموما، إذ ليس سهلا أن تتبع خيوط الجريمة بين صفوف “السيستيما” المحيطة بروسيا.
 
و”السيستيما” هو نظام الحلقات المقربة من بوتين في قمة السلطة. وليس شرطا أن يضم هذا النظام المساعدين المباشرين والمسؤولين الرسميين في الدولة، لكنه، في جزء كبير منه، يقوم على المتعاقدين والوسطاء وشخصيات تعمل مع الدولة لكن تحت غطاء من العمل على الحرب.
 
وظهر ذلك جليا بعد العملية التي تبنتها القوات الأميركية في شمال سوريا في يناير، وأعلن عنها الشهر الماضي، وأدت إلى مقتل حوالي مئتي مواطن روسي، من المرتزقة الذين يعملون لدى شركة تدعى “فاغنر”.
 
وقالت رويترز إن قائد المرتزقة الروس في سوريا هو العميد السابق، ديمتري أوتكين، وهو من المقاتلين السابقين في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا.
 
وتفيد تقارير إعلامية روسية نقلا عن مصادر عسكرية أن أوتكين خدم في وقت سابق في لواء القوات الخاصة التابعة للمخابرات العسكرية الروسية، وأن “فاغنر” تتلقى تمويلا من رجل الأعمال المقرب من بوتين، يفغيني بريغوزين، الموضوع على لائحة العقوبات الأميركية بسبب أنشطته الداعمة للانفصاليين في شرق أوكرانيا، ودوره في السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014.
 
وبالطبع تم إرسال الجنود المرتزقة للمشاركة في الحرب السورية بأوامر من بوتين، لكن الحكومة الروسية تعمل بطريقة لا تسمح لأي محققين يمسكون ببداية الخيط، بأن تصل نهاية هذا الخيط إلى بوتين شخصيا. ومع هذا النظام المعقد، الذي يطلق عليه في الغرب “النظام الموازي”، يظل من الصعب إثبات سلسلة جرائم الاغتيال التي تقع في لندن أو مدن أخرى في العالم.
حرب أكثر من باردة
 
تشبه محاولة اغتيال سكريبال الاحترافية والجرأة اللتين اغتيل بهما جورجي ماركوف الصحافي البلغاري المعارض للاتحاد السوفييتي، عام 1978، إذ تعرض لنغزة بسيطة وسريعة من مقدمة مظلة مغلقة كان يحملها عميل في مخابرات بلغاريا (التي كانت وقتها لا تزال جزءا من الاتحاد السوفييتي)، بينما كان ينتظر الحافلة على جسر ووترلو وسط لندن.
 
وبعد تحليل المادة التي حقنت بها ساق ماركوف اتضح أنها “الريسين”، وهي مادة شديدة السمية. ولم يستغرق الأمر بماركوف، الذي كان يعمل في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” ودأب على مهاجمة سياسات الاتحاد السوفيين بقوة، أياما قليلة قبل أن يفارق الحياة.
 
وعكس اغتيال ماركوف درجة الاندفاع إلى أقسى درجة في القسوة دون تردد، والذهاب إلى أبعد مدى في ابتكار أساليب جديدة لتنفيذ عمليات اغتيال، إذ استخدم القاتل مظلته التي يحتمي بها من المطر كسلاح أطلق السم في جسد ماركوف.
 
ومنذ صعود بوتين للحكم مع مطلع القرن الجاري، استعاد الغرب هذه المشاهد مرة أخرى، واستعاد أيضا إصرار الرئيس الروسي على بدء الشوط الثاني من “الحرب الباردة” مع الغرب.
 
ويعتقد بوتين أن الاتحاد السوفييتي تعرض لحرب “ظالمة” وأنه “لم تكن لديه الفرصة للرد”، وتعهد في أكثر من مناسبة باستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي مرة أخرى. لكن هذه المرة الحرب ستكون أكثر من “باردة” قليلا، إذ اختلفت أساليب التجسس والتتبع ومهاجمة أهداف العدو وتعطيل قدراته على الرد. وتشهد أجهزة المخبارات اليوم عصرا جديدا تلعب فيه العمليات السيبرية دورا بارزا في جمع المعلومات وتحقيق اختراقات في أماكن حساسة
وتعطيلها. واتهمت السلطات البريطانية هذا الشهر روسيا بالوقوف وراء هجوم سيبري العام الماضي استهدف عدة دول ومؤسسات مالية ومراكز صحية وشبكات كهرباء في العالم، قبل أن يوقفه مراهق بريطاني بالصدفة، وكشف هذا الهجوم، الذي نفذه قراصنة مرتبطون (بشكل غير رسمي) بالحكومة الروسية.
 
وأكثر ما يمكن أن ترد به بريطانيا عملية مماثلة وسرية على الأراضي الروسية، تقوم بها “إم آي 6” دون الإعلان عنها في وسائل الإعلام تجنبا لاستفزاز موسكو.
 
وتعكس فلسفة بوتين استعداده لخوض “الحرب الباردة” من المربع الأول، بحيث تكون نهايتها هذه المرة مختلفة. ويقول مسؤولون سابقون في مخابرات غربية إن بوتين يحلم بتفكك منظومة العالم الغربي، بدءا بتصدع جسم الاتحاد الأوروبي وضعفه، وانتقال هذا الإحساس العام لاحقا إلى الولايات المتحدة، “وهو ما يفسر تركيزه على التدخل في الانتخابات في عدة دول أوروبية، ومحاولة إضعاف بريطانيا بأي ثمن، باعتبارها الضمان العسكري والأمني لأوروبا”.
 
لكن التهديدات التي أطلقتها الحكومة البريطانية للرد على روسيا في حال ما ثبت وقوف الكرملين وراء محاولة اغتيال سكريبال، تكاد تكون غير واقعية.
 
ولا تملك بريطانيا اليوم أوراقا من الممكن أن تستخدمها لمعاقبة روسيا، في وقت تكافح فيه للخروج باتفاق مناسب من الاتحاد الأوروبي.
 
وأكثر ما يمكن أن ترد به بريطانيا عملية مماثلة وسرية على الأراضي الروسية، تقوم بها “إم آي 6” دون الإعلان عنها في وسائل الإعلام تجنبا لاستفزاز موسكو.
 
والخيار الثاني أمام بريطانيا هو فرض عقوبات اقتصادية على مؤسسات محورية في روسيا، أو بعض الأشخاص سواء كانوا مسؤولين في الدول أو مواطنين يعملون بشكل شبه مستقل. والخيار الثالث هو زيادة الدعم المالي والعسكري لدول البلقان ودول أخرى، كانت جزءا في السابق من الكتلة الشرقية الحليفة لموسكو، لكنها باتت تستقبل اليوم على أراضيها قوات أميركية وبريطانية ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي (ناتو).
 
ورغم مرور قرابة 8 أعوام على الإفراج عنه ومبادلته بجواسيس روس كانوا يعملون في الغرب، تمثل محاولة اغتيال سيرغي سكريبال، الذي لا يزال يصارع الموت في أحد المستشفيات البريطانية، مؤشرا واضحا على عزم بوتين استكمال “حرب الجواسيس” وحرصه على نقلها إلى أراضي الغرب.