من اكتشاف النار إلى غزو الفضاء.. رحلة تطور الذكاء البشري عبر ملايين السنين

قبل 30 إلى 60 مليون عام، حين كانت الديناصورات العملاقة منذ فترات قريبة تخطو خطواتها الأخيرة للأبد، في نفس الحيّز الزمنيّ، وحسب نظريّة التطوّر؛ كان مخلوق غريب يعيش لحظاته الأولى على هذه الأرض. كائن يبدو شبيهًا بالإنسان الحالي، والقردة البرية، في الوقت نفسه. يخطو فوق الأراضي الرطبة، وتتكسر تحت أقدامه العارية فروع صغيرة متيبسة، بينما يبحث هو عما يمكن أن يستخدمه لفصل لحم الغزال الذي اصطاده للتو عن عظامه.
 
كان هذا الكائن وحيدًا، يعيش على الصيد، ولا يشغله في تمضية الوقت، إلا الابتعاد عن المفترسات القريبة، وجمع الطعام الذي يكفيه لأطول وقت ممكن، قبل أن يتحلل ويصبح غير صالح للتغذية.
 
فلنحيا معًا لنصبح أكثر ذكاءً
 
تشير الدراسات إلى أن هذا الكائن هو السلف المشترك للإنسان والشمبانزي والغوريلا، حسب نظرية التطوّر، وقد بدأ في فترات لاحقة بالتحول من نمط الحياة الانفرادي إلى نمط مختلف، ربما سيكون سببًا في تغيير مستقبل هذا الكائن ونسله إلى الأبد.
 
بدأت هذه المخلوقات بالعيش في مجموعات، بعد أن كانت تعيش منفردة؛ ليصاحب هذا السلوك الجديد مجموعة من التغيرات الذهنيّة والبيولوجيّة التي ساهمت بشكل كبير في تغيير طريقة حياتها.
 
من المؤكّد أن هناك بعض المهارات التي تعلمها الصيّاد المنفرد حين كان يجوب الأدغال وحيدًا باحثًا عن الطعام والمأوى، لكن عندما ينضم هذا الصياد إلى مجموعة ليعيش وسط أفرادها؛ فينعم بحمايتهم، ويتبادل معهم الأدوار التي تجعل الحصول على الطعام أسهل، وكذلك مقاومة المفترسات أقل خطورة، فإنه سوف ينقل إليهم كل المهارات التي تعلمها من قبل.
 
ويشير العلماء إلى أن كل أفراد المجموعة سيقومون بنفس السلوك، وبالتالي فإن كل شخص سيكتسب خبرات كل أفراد المجموعة، وهو الأمر الذي سيساهم في حفظ كل هذه الخبرات في سجل معلوماتي لم يكن ليوجد لو أن كل واحد من هؤلاء قد توفي بمفرده من برودة الطقس، أو تعرض للافتراس؛ لتختفي معه كل الخبرات التي كونها عن البيئة التي عاش فيها.
 
ووفقًا لدراسة أجريت في جامعة لندن، فإن براعة الأفراد الذين عاشوا في مجموعات كانت تفوق بكثير براعتهم عندما عاشوا منفردين، كما أن هذا الأمر قد زود كل أفراد القطيع بنوع من الحكمة التي كانت بدورها خطوة كبيرة في مسار البشرية فيما بعد.
 
لم تستبعد هذه الدراسة أن تكون هناك أسباب بيولوجية لتفسير زيادة الإدراك التي حققتها تلك المخلوقات في هذه الفترة. من هذه الناحية فإن هناك «جين» معينًا تم رصد آثار تطوره في الفترة ما قبل 10 إلى 15 مليون سنة مضت، وهو جين «RNF213» الذي أخذ يتطور بسرعة كبيرة؛ لتزداد معه تدفقات الدم إلى الدماغ عن طريق توسّع الشريان السباتي.
 
ووجد الباحثون الأستراليون رابطًا قويًا بين الذكاء وكمية الدماء التي يمكن أن يحصل عليها الدماغ؛ إذ قامت الدراسة بتحليل حجم الفتحتين في قاعدة حفريات الجماجم، والتي حددت بدورها كمية الدم التي تمر إلى الدماغ؛ ما أتاح للفريق ملاحظة التطور المستمر للذكاء البشري على مدار 3 ملايين سنة.
 
ورصدت الدراسة زيادة حجم الدماغ بنسبة 350% عبر مراحل تطور الإنسان، بينما كانت الزيادة في معدلات تدفق الدماء قد ارتفعت بنسبة 600%. يقول روجر سايمور، مدير المشروع القائم على الدراسة: «نحن نؤمن أن هذه الإمكانية مرتبطة بحاجة الدماغ لتغذية وصلات الطاقة المتزايدة بين الخلايا العصبية التي سمحت بتطور التعلم والتفكير المعقد».
 
أشباه البشر.. الانفصال عن الأقارب
 
قبل سبعة إلى 13 مليون عام مضى، انفصل أسلاف البشر – حسب نظرية التطوّر – عن أقاربهم الأكثر شبهًا بالشمبانزي. أعقب هذا الانفصال، الذي حدث على مستوى الخلايا أكثر مما حدث في الشكل الخارجي، طفرةٌ جينية ثورية قادها جين يسمى «ARHGAP11B».
 
ويتواجد هذا الجين في الخلايا الجذعية، كما يرتبط تطوريًا بزيادة حجم الدماغ لدى أشباه البشر الأوائل. وقد تناولت دراسة حديثة هذا الجين، وأجريت في معهد ماكس بلانك؛ لبحث أصله ووظيفته التي يقدمها للدماغ.
 
كان الهدف من الدراسة هو بحث ما إذا كان هذا الجين يرتبط بتطوير البشر لقدرات عقلية لم تتطور لدى كائنات أخرى، ومن بين هذه القدرات: اختراع اللغة، والقدرة على التفكير المجرد. وجد الباحثون أن هذا الجين يعمل بنشاط كبير في مراحل تطور الجنين، وبالعودة إلى تاريخ الجين نفسه، وجد الفريق أن هذا الجين قد تطور لدى أنواع أخرى من أشباه البشر، إضافة إلى البشر الحاليين، فقد تطور لدى إنسان «الدينيسوفا»، بينما لم يتطور الجين لدى أقارب أشباه البشر، مثل: الشمبانزي. كما صاحَبَ ظهور جين «ARHGAP11B» ظهور جين آخر يسمى «ASPM»، الذي يلعب دورًا كبيرًا في زيادة حجم الدماغ كذلك.
 
منطقة أخرى في التكوين الجيني تسمى «HAR1» بدأت في التغير بشكل دراماتيكي في نفس الفترة عقب الانفصال عن الشمبانزي والغوريلا، ويُعتقد أن هذه المنطقة تلعب دورًا كبيرًا في تطور حجم القشرة الدماغية. كان اهتمام الباحثين بظهور هذين الجينين، وهذه المنطقة من الشفرة الوراثية، نابعًا من كونها أكثر الخصائص التي ظهرت فيها اختلافات بين أسلاف البشر وأبناء عمومتهم؛ ومن ثم يجب أن يكونوا من المكونات التي ساهمت في تفرد أسلاف البشر؛ وبالتالي يجب النظر إليهم في فهم تطور الذكاء البشري في هذه الفترة بالتحديد.
 
أيدٍ قوية وفكّ ضعيف
 
استخدم الإنسان يديه في صناعة الأدوات التي كان يحتاجها لكل الأغراض، من صناعة الصخور المدببة لكشط اللحم وفصله عن العظام، إلى صناعة الرماح من العظام والصخور المدببة، ثم الكتابة. كل هذه المهارات كانت تتطلب يدين بارعتين بشكل فريد، وهذا ما حدث قبل قرابة 6 ملايين عام. يعتقد العلماء أن هذا التطور في شكل اليد حدث جزئيًا؛ بسبب جزء من الحمض النووي (DNA) يسمى «HACNS1»، الذي تطور لدينا في مرحلة ما بعد الانفصال عن الشمبانزي.
 
وقد أجريت دراسات لمحاولة فهم طريقة عمل هذا الجزء من الحمض النووي (DNA) لتجد أنه مسئول عن التحكم في الجينات التي تحدد شكل أطرافنا، وبالأخص في الشكل الذي يتخذه الإبهام في اليد البشرية. لقد سمح الوضع الجديد لإبهامنا بأن نمسك الأدوات بشكل أكثر تحكمًا ودقة؛ ما عزز قدراتنا على صنع أدق الأدوات وأكثرها تعقيدًا، ولاحقًا على الكتابة.
 
على مستوى قوة الفك، نحن نمتلك الفك الأضعف مقارنة بكل القردة العليا، لكن هذا النقص قد سمح لنا بالحصول على ميزة ضرورية في مسارنا لنصبح أكثر ذكاءًا. في الفترة قبل 5.3 إلى 2.4 مليون عام، تسبب جين يسمى «MYH16» في نقص حجم العضلات الخاصة بالفك؛ وهو الأمر الذي ترك مساحة آخذة في الاتساع، تسمح بزيادة حجم الدماغ، ولكن كيف حدث ذلك؟ تقترح دراسات أن نقصان حجم العضلات يؤدي إلى تغير في شكل العظام المرتبطة بها. من هنا، يكون التغيّر في حجم العضلات قد أدى لتغيّر حجم العظام المرتبطة بها؛ وهو ما ساهم في تغير شكل الجمجمة حتى يسمح للدماغ بالنمو بشكل أكبر.
 
دع العشب وساعدني في صيد هذا الغزال
 
ظل البشر بعد الانفصال عن الشمبانزي – حسب الدراسة المذكورة – لفترات طويلة يأكلون العشب والنباتات والفاكهة فقط، لكن نوعًا متأخرًا من أسلاف الإنسان شعر بالملل من هذا النظام الغذائي، وقرر تجربة شيء آخر جديد، ربما حيوانًا يتحرك في كتلة العشب كان قد رأى أسدًا يلتهمه قبل أيام. هذا السلف كان إنسان «أسترالوبيثيكس» (Australopithecus) الذي بدأ في تنويع أصناف مائدته؛ ليضيف إليها اللحوم. اللحم كان يعني في ذلك الوقت المزيد من الطاقة، وبالمصادفة فإن دماغه الآخذ في التضخم كان نهمًا لهذه الطاقة، وكذلك كانت اللحوم أكثر مناسبة لفكه الآخذ في التقلص.
 
التغيرات الجينية التي حدثت في هذه المرحلة للدماغ كثيرة، بعضها كان مرتبطًا بالتطور المعرفي والذكاء الذي نعرفه اليوم؛ إذ رصدت دراسة جين يسمى «SRGAP2» نُسخ لثلاث مرات على الأقل، قبل قرابة 3 ملايين عام، وسمح هذا الجين بتكوين تشكلات خلوية دماغية أكثر كثافة (dendritic spines)؛ ما ساعد في تكوين روابط أكثر مع الخلايا العصبية القريبة بالدماغ.
 
ويقول الدكتور فرانك بولوكس، المؤلف الرئيس للدراسة: «إن قمت بزيادة العدد الكلي للوصلات، فإنك ترفع من قدرة شبكة الخلايا على معالجة المعلومات، إنه مثل زيادة عدد المعالجات (processors) بالنسبة للحاسوب». ساهم هذا الجين في تطور جنس جديد من البشر يسمى «هومو» (Homo) الذي تميز بدماغ أكبر عن أسلافه، وبدأ هذا الجنس، على الأرجح، بنوع «هومو هابيليس» (Homo habilis) ليقود لاحقًا إلى تطور نوع «هومو إريكتوس» (Homo erectus)، وهو أول سلف للإنسان يجوب القارة الأفريقية – حسب الدراسة المذكورة – على قدميه قبل قرابة 1.8 مليون عام.
 
فلنشعل النيران ونحكي القصص
 
بينما كان يجلس على جذع شجرة، ناظرًا إلى السماء التي تشقها ومضات عملاقة من الضوء، وإذ بواحدة من هذه الومضات تهبط إلى الأرض ضاربة شجرة لتندلع فيها النيران؛ وتتحول الشجرة في غضون ساعات إلى رماد. ربما يكون هذا المشهد للبرق والرعد قد أنتج الخاطرة الأولى لصناعة حريق في عقل أحد أسلافنا.
 
لا أحد يعلم على وجه التحديد متى بدأ أسلافنا في التحكم بالنيران واستخدامها للأغراض المختلفة، لكن الدليل الأقدم يعود إلى أحد الكهوف في جنوب أفريقيا، والذي يحتوي على رماد عظام محترقة تعود إلى مليون عام، كما أن هناك دلائل أخرى لأجناس من البشر كانت تعد الطعام في فترات أقدم، وهو ما يمكن أن يعتبر دليلًا على استخدام النيران في الطبخ.
 
تمتك القردة العليا حويصلات هوائية في مناطق إنتاج الأصوات؛ ما يمكنها من إحداث أصوات صاخبة لا يستطيع البشر القيام بها. هذه الحويصلات تجعل من المستحيل صناعة تشكيلات صوتية متنوعة، وربما هذا هو السبب وراء فقدان سلفنا، إنسان «النيادرتال» (Neanderthals) لهذه الحويصلات؛ ما أتاح لنا التحدث بلغة بسيطة، وحدث ذلك في الفترة قبل 1.6 مليون عام إلى 600 ألف عام. في فترة لاحقة قبل 500 ألف عام، تطور لدى سلفنا النياندرتال جين يسمى «FOXP2» الضروري من أجل تكوين وتعلم اللغة.
 
في ذلك الوقت، كان الجلوس حول النيران المشتعلة، ورواية القصص أمرًا مهمًا من أجل تبادل الخبرات، والحديث عن الأمور الخاصة والعامة؛ ما ساهم في تعزيز دور الذاكرة في حفظ واستدعاء المعلومات، وهو الأمر الذي اعتبرته دراسات عدة من بين الأمور التي تفرد بها البشر، وساهمت في تطور الذكاء البشري. كان على أفراد المجموعة حكاية القصص، وتذكرها جيدًا، وفهم ما ترمي إليه؛ لاستخدامها في المواقف المستقبلية. كذلك كان عليهم بناء القدرة على تمييز القصص الحقيقية من القصص المزيفة؛ ما ساهم في تطوير القدرة على النقد والاحتكام للقواعد البسيطة للمنطق.
 
«ثورة البشر».. فرضية أخرى للذكاء البشري
 
نظرية أخرى حاولت تفسير ظاهرة الذكاء البشري تختلف عن نظرية التطور التدريجي على مدار ملايين السنين، وقد سميت هذا النظرية بـ«الثورة البشرية»، وكان أول من صاغ هذا المصطلح هو عالم الإنثروبولوجيا بول ميلارز، وقد شرح فكرته عام 2007 قائلًا: «لقد كانت حلقة متسارعة من التغير».
 
بحسب بول، فإن هذه الفترة كانت بين 60 إلى 80 ألف عام مضت، مباشرة قبل العصر الحجري الوسيط، مستمرة إلى أواخر العصر الحجري.
 
في هذه الفترة، وجد العلماء سيلًا من الأدلة الأركيولوجية التي تثبت أن الإنسان قد تفرد بشكل كامل عن أسلافه الأقدم من حيث التطور التكنولوجي. لقد تطور البشر في صنع الأدوات من الحجارة إلى العظام، وكان استخدام هذه الأدوات في مهمات واسعة الانتشار، من الصيد إلى الطرق والحماية. قام البشر في هذه الفترة بتطوير حس جمالي باستخراج أصداف ملونة، وتجارتها والتنقل بها عبر مسافات واسعة، كما استخدموا النيران لحرق الأراضي القريبة منهم للسماح بنمو نباتات معينة، ودفنوا موتاهم، ورسموا العديد من اللوحات الملونة على جدران الكهوف التي استعمروها.
 
لا يعرف ميلارز السبب الرئيس وراء هذه الثورة، لكنه يعدد بعض الاحتمالات التي مهدت لها. يقترح ميلارز أن يكون السبب هو طفرة جينية حدث لأسلاف البشر في تلك الفترة، وقد انتشرت هذه الطفرة عبر القارة الإفريقية. كذلك ربما تكون هذه الثورة المعرفية قد اندلعت نتيجة التغيرات الاقتصادية والديموجرافية الناتجة عن التغييرات المتلاحقة للظروف المناخية والبيئية، ويُعتقد أن هذه التغيرات المناخية قد حدثت بعد انفجار بركان جبل «توبا» العظيم (the Mount Toba mega) في سومطرة قبل 74 ألف عامًا. ربما يكون ما تسبب في هذه الثورة السببين مجتمعين: الطفرة الجينية، والتغير البيئي.
 
بغض النظر عما إذا كانت نظرية تطوّر الذكاء البطيء هي الأصوب، أم نظرية التطوّر الثوري، فإنه بعد كل هذه التغيرات التي حدثت على المستوى البيولوجي، أصبح البشر في كامل الاستعداد لتحقيق الثورات العلمية والتكنولوجية في العصور اللاحقة، يتضمن ذلك كل المنجزات الحالية، مثل: غزو الفضاء بأدوات خارقة القوة والسرعة، كذلك المنجزات التي سيحملها المستقبل القريب والبعيد، مثل: استعمار المريخ، واكتشاف آفاق أبعد للكون. من هذه الزاوية لم يكن بإمكان البشر الوصول لكل هذا التقدم في مستوى التكنولوجيا، بدون المرور بكل تلك المراحل التي مهدت لكل ما تلاها من منجزات الذكاء البشري. يرى الكثير من العلماء أن العقل البشري لا يزال في مرحلة التطور؛ ما يعني أن هناك الكثير من التوقعات بشأن التطور العلمي المرافق لتطوّر الذكاء البشري كذلك.