تريليونات أنفقتها أمريكا لأغراض عسكرية غامضة

تناول تقرير على موقع «جاكوبين» أعده برانكو مارسيتيتش بالتحليل ما قال إنها وثائق أعدها باحثون تؤكد فقدان تريليونات من الدولارات من الأموال المخصصة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) وُجهت إلى قطاعات عسكرية غير معروفة، وأنه ربما يكون من المستحيل معرفة مصير تلك الأموال.

وأوضح مارسيتيتش أن خبيرًا اقتصاديًا من جامعة ولاية ميتشيجان قال إن البنتاجون أنفق حوالي 6.5 تريليون دولار على أنشطة غير خاضعة للرقابة في عام 2015 فقط، وهذا على الرغم من أن ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية بأكملها عن العام المذكور بلغت 565 مليار دولار. لكنه يفترض أن الرقم ربما بالمليار وليس التريليون، وأنه قد سُجل بالخطأ.

لكن لدى فحصه الوثائق، ذُهل الدكتور مارك سكيدمور حين تبين له أنه لا وجود لأخطاء، وأن الرقم هو 6.5 تريليون دولار. وقد تواصل سكيدمور مع كاثرين أوستين – سكرتيرة مساعدة سابقة في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية – التي كانت أول من كشف هذه الفضيحة.

قام كل من سكيدمور وأوستين، بمعاونة آخرين، بفحص آلاف الوثائق الحكومية التي تحوي حالات مشابهة – يؤكد مارسيتيتش – فصُدموا حين اكتشفوا أن البنتاجون قد أنفق حوالي 21 تريليون دولار منذ العام 1998 على أنشطة غير معروفة، في حين أنفقت وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأمريكية 350 مليار دولار عن نفس المدة.

أموال مفقودة

يوضح مارسيتيتش أن المبالغ الهائلة محل التساؤل تُعرف باسم «قسائم التسويات غير المدعومة»، وهي طريقة أكثر تعقيدًا لقول إن الفروقات في الإنفاق الحقيقية والمسجلة تفتقر إلى تفسير.

فعندما يكون هناك نوع من التناقض المحاسبي يتم إصدار قسيمة يومية تشكل تسوية للمحاسبة. وغالبًا ما تكون هذه القسائم «غير مدعومة» – أي لا تدعمها الإيصالات وغيرها من الوثائق، أو شرح مصاحب لماهية هذا المال وكيف جرى إنفاقه.

يقول رافائيل ديجينارو، مدير التدقيق في البنتاجون «من الأصوب القول إنه لم يجرِ تسجيلها بشكل صحيح عن الافتراض أنها فُقدت أو اختفت».

بينما يقول دونالد كيتل، الأستاذ في كلية السياسة العامة بجامعة ميريلاند «إنها مؤشر على وجود مشاكل محاسبية عميقة. ولكن ليس بالضرورة أن تكون إشارة على الإنفاق غير القانوني».

لكن هذا لا يعني أنها ليست مسألة خطيرة – يستدرك مارسيتيتش – إذ يقتبس سكيدمور كلام أستاذي المحاسبة جاك كيجر ودلوين اللذين أشارا إلى مجموعة من الحالات البارزة التي استخدم فيها المديرون مثل هذه التسويات لطمس أنشطة غير قانونية. ويؤكد مارسيتيتش على أن جميع الخبراء الذين تحدث إليهم قالوا إن الاحتيال واضح في هذه الحالة، على الرغم من أنه من المستحيل معرفة مقدار المبلغ المفقود.

تتسم معظم عمليات المحاسبة في البنتاجون بعدم الشفافية غالبًا – يضيف مارسيتيتش. استشهد سكيدمور بتقرير أشار إلى أن الجيش تلقى حوالي 800 مليار دولار في السنة المالية 2015، التي كانت غالبيتها «تتعلق بتسويات تنفيذ الميزانية من السنوات السابقة» وأنها كانت تحتاج إلى تصحيح.

ولكن كما قال سكيدمور، فإن الوثائق التي نشرت للسنوات السابقة تظهر أن تلك التسويات كانت غير ضرورية. وقد ناشد سكيدمور عدة جهات رسمية للحصول على إجابة ولكن لم يتمكن من العثور على أي شخص شارك في كتابة التقارير. وعندما سأل عما إذا كانت هذه المبالغ الكبيرة قد فُقدت، قيل له إنه إذا كانت المسألة على هذا النحو، فستكون هناك جلسة استماع في الكونجرس حول هذا الموضوع. ثم، بعد أن استفسر عن التقارير، عُطِّلتْ الروابط المتاحة للجمهور على صفحات الحكومة فجأة.

تجنب المحاسبة

تستعد وزارة الدفاع لإجراء أول عملية تدقيق محاسبي منذ سبعة عقود – يواصل مارسيتيتش كلامه – ويبدو أن النتيجة ستكون مخيفة.

ثمة مطالبات لإجراء عملية تدقيق محاسبي في البنتاجون منذ عام 1990، عندما أصدر الكونجرس قانون كبار الموظفين الماليين «CFO»، ويشترط إخضاع كل وكالة اتحادية للتدقيق المحاسبي. وبعد ذلك، خضعت كل الوكالات للتدقيق باستثناء وزارة الدفاع، والتي تمكنت عامًا بعد عام من التملص. كانت أقرب محاولة عندما خضع فيلق المارينز لمراجعة مستقلة في نهاية عام 2013، لكنها لم تكتمل. الآن صدر أمر بمراجعة الحسابات بعد أربعة أيام فقط من مناقشة سكيدمور النتائج التي توصل إليها وهو ما لا يعتبر صدفة.

ولكن هل ستنجح عملية التدقيق؟ وإذا كانت سجلات وزارة الدفاع غير مطابقة للواقع، فهل ستُلغى عملية التدقيق؟ يتساءل مارسيتيتش.

يرى وليام هارتونج، مدير مشروع الأسلحة والأمن في مركز السياسة الدولية «أنه قد يكون من المستحيل حل جميع الألغاز المتعلقة بتوثيق النفقات السابقة. ويثور تساؤل عما إذا كان البنتاجون يحتفظ بسجلات محاسبية سرية تخفي أوجه القصور داخله».

تقول ليندساي كوشجاريان، مديرة برنامج مشروع الأولويات الوطنية لمعهد الدراسات السياسية «لقد كان لديهم 28 عامًا، وإذا كانت هذه أولوية، لكانوا أجروا التدقيق سلفًا».

لكن دونالد كيتل متفائل إلى حد ما؛ إذ يرى أن سجلات البنتاجون قابلة للتدقيق – ولكن مقابل ثمن ضخم، مشيرًا إلى أن الأمر قد يكلف 847 مليون دولار دون إجراء تدقيق نظيف.

شعرت كوشجاريان بالإحباط مما سبق – يؤكد مارسيتيتش – الذي يركز عملها على كيفية تأثير عقود من الإنفاق الدفاعي على الاستثمار في قطاعات أخرى لها الأولوية. وتقول: «تتحجج الإدارات الأمريكية بالدين والعجز في كل عام لخفض الإنفاق الاجتماعي»، وما ينفك المحافظون عن الترويج إلى ضرورة تخصيص ميزانيات عسكرية أكبر. وأضافت «لهذا السبب لا يمكننا في أمريكا أن نتحمل الإنفاق على كافة المجالات مثل نظام رعاية صحية شامل، وبرنامج عمل أكثر عدلًا».

يعتقد كيتل أن عملية التدقيق لن تعود بالنفع على دافعي الضرائب. ولكنها ستكشف عن سجلات وزارة الدفاع غير المطابقة للمواصفات وتقترح توجهًا نحو التحسينات المستقبلية.

تتزايد الدعوات لتعزيز سلطة مكتب الاختبار المستقل التابع للبنتاجون – ينوه مارسيتيتش – المسؤول عن تقييم البرامج وتحديد ما إذا كان سيتم الاستمرار في تمويلها أم لا، ووضع إجراءات جديدة لتحسين تتبع الإنفاق في المستقبل. وينوه ديجينارو أيضًا إلى التشريعات التي تفرض عقوبات مالية على عدم الامتثال للقانون، مثل قانون مراجعة قانون البنتاجون لعام 2017 الذي قدمته النائبة باربرا لي – التي اشتهرت بكونها المعارض الوحيد لقانون التفويض العسكري الذي طلبه جورج بوش الابن بعد هجمات سبتمبر (أيلول) – الأمر الذي من شأنه أن يخفض الميزانية التقديرية لوزارة الدفاع بنسبة نصف في المئة إذا لم تخضع للتدقيق.

ويرى ماسيتيتش أن التركيز على التمويل الممنوح لمتعاقدي الدفاع الذي يشكل نحو 60% من تمويل المقاولات الاتحادية يعتبر بداية جيدة. منذ عام 2008، حذر مكتب المساءلة الحكومي من أن اعتماد وزارة الدفاع المتزايد باستمرار على المقاولين تركها «عرضة للاحتيال أو إهدار الأموال أو إساءة استخدام أموال دافعي الضرائب». والشركات العشر الأوائل المدرجة في مشروع الرقابة الحكومي هي لمتعاقدين دفاعيين شهدت جميعًا أنشطة غير شرعية.

يقول ديجينارو «إن مقاولي وزارة الدفاع الذين يقدمون السلع والخدمات يستفيدون من النظام بطرق عديدة، بدءًا من الفواتير المبطنة إلى الغش المباشر. وفي كثير من الأحيان يتم توفير الرقابة من قبل المقاولين الآخرين، لذلك يراقب المقاولون بعضهم البعض».

وقال هارتونج «يمكن للحكومة أن تلاحق الذين يستحقون الفصل أو الملاحقة القضائية وإرسال رسالة لهم. لكنها عادة ما تكتفي بالتوبيخ».

يرجع ذلك جزئيًا إلى أهمية قطاع الدفاع في توفير الوظائف – يشدد ماسيتيريتش – فعدد قليل من المسؤولين، ولا سيما المنتخبين، يتوقون لترأس شركة توظف الآلاف في مسقط رأسهم، حتى لو كان الاستثمار في الطاقة الخضراء والتعليم والصحة يخلق ما بين 50 و140 في المئة من الوظائف أكثر من الأموال التي ينفقها البنتاجون. ولكن في غياب استثمارات حكومية قوية في هذه القطاعات، فإن صناعة الدفاع هي برنامج الوظائف الحكومي الوحيد المتاح.

وهناك أيضًا حل آخر وهو تغيير بوصلة السياسة الخارجية. قالت كوشجريان «ثمة حاجة إلى التخلي عن فكرة اضطرار أمريكا الى استخدام جيشها لحل جميع مشاكل العالم».

بينما يقول هارتونج «إن تحسين الرقابة لن يحل السؤال الأكبر عن سبب إنفاق البنتاجون على أنشطة لا تجعل أمريكا أو العالم أكثر أمنًا. لذلك سنحتاج إلى سياسة خارجية أقل تدخلًا وسبل للتصدي لضغط لوبي المجمع الصناعي العسكري». وهناك فوائد انتخابية كبيرة من اتخاذ موقف أقل مغامرة في السياسة الخارجية، إلى جانب أن الاعتراضات الأخلاقية والعملية على فكرة شن المزيد من الحروب يمكن أن تردع أي سياسي مغامر.

إن ممارسات المحاسبة السيئة في وزارة الدفاع ستكون دائمًا ثانوية أمام المذابح والغضب الذي تخلقه سياساتها. ومع ذلك، فإن هذه المبالغ الهائلة غير المحسوبة تمثل الطريقة التي أصبح بها الجيش، وفق كلمات ديجينارو، «مخروط آيس كريم عملاقًا لا يخضع إلى أي رقابة سياسية أو شعبية». قد لا تكون عملية التدقيق المقبلة علاجًا سحريًا، ولكن يمكنها أن تسلط الضوء على جانب من الدولة ظل فترةً طويلة يعمل في الخفاء.