تصدير القلق.. من أين يستمد الرئيس صالح قوته؟

ثمة فارق جوهري بين الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، ومعارضيه المحليين، ذلك أن الأول لم يخرج يوماً عن حدود الخصومة السياسية إلى الفجور في العداء، كما هو حال المعسكر الثاني، وهنا تكمن نقطة التقاطع بين خبير سياسة مثخن بقواعدها منذ ثلاثة عقود، وخبراء حقد أسود.

 

منذ اللحظات الأولى لانتخابه لقيادة بلد ممزق يمر بأخطر فترة صراع في تاريخه السياسي، اعتمد الرئيس صالح فلسفة التسامح السياسي مع الخصوم، وقد جسد ذلك بدعوة رؤساء سابقين للعودة من المنافي القسرية إلى وطنهم، ليعود الرئيس السلال محاطاً بالرعاية الكاملة، وبعده الرئيس الارياني بعد أن ظل في المنفى ردحاً من الزمن يحلم بالعودة.

 

ولعل بناء الدولة شكل الأناء العليا في مكنون صالح، ليعمد بقلب واسع وافق أكثر اتساعاً إلى إذابة جليد الصراع المتدحرج من طريق القوى اليمنية، وفتح الباب لدخولها مجتمعة في مرحلة جديدة تمارس الاختلاف بشفافية.

 

صهر الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح كل جهده وتجاوز باليمن أخطر المنعطفات، وشرع في التنمية الاقتصادية محققاً منجزات سامقة.

 

ومثلت مرحلة الثمانينيات قفزة نوعية في حياة اليمنيين ويمكن اعتبارها بداية التحول الذهبي، إذ بدأ اليمن يطل بوجه مشرق ويتخلص تدريجياً من أزماته الاقتصادية، خصوصاً بعد اكتشاف النفط والغاز.

 

وواكب ذلك تنفيذ سلسلة إصلاحات سياسية خلقت نوعاً من الاستقرار ما شجع رأس المال الخارجي على الاستثمار في اليمن.

 

وشهدت اليمن، على مدى ثلاثة عقود، هي فترة حكم الرئيس صالح، تحولات جذرية، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يتصدرها سبر أغوار طعنة غدر في خاصرة الوطن اليمني في عام 1990، بعد عهد من التشطير.

 

ومثلما نجح صالح بإعادة اللحمة الوطنية، شيدت في عهده العديد من المنجزات الاستراتيجية، شملت كل أوجه الحياة وأعطت المرحلة أبعادها المشرقة وحققت آمال وتطلعات المجتمع وأهداف الثورة اليمنية – سبتمبر وأكتوبر.

 

 

القوة العسكرية خارج حسابات صالح السياسية

 

وتجدر الإشارة، إلى تعاطي الرئيس صالح مع واحدة من أخطر الأزمات السياسية في تاريخ اليمن المعاصر، وهي الأزمة التي بدأت تداعياتها تضرب في عمق الدولة خلال عام 2011م، ليجد الرئيس الأسبق نفسه أمام مهمة صعبة، تمثلت في تجنيب البلد خطر الانهيار.

 

في تلك الأثناء تحرك صالح سريعاً ليعلن مبادرة سياسية بهدف احتواء الاحتقان المتصاعد، بيد أن جهوده اصطدمت، برفض تحالف المشترك بزعامة جماعة الإخوان في اليمن، فكان على الرئيس صالح تحريك القنوات الدبلوماسية لهندسة مخرج سياسي برعاية دولية، لإنقاذ دولة وضعها خصومه أمام وصفة قاتلة، فكانت المبادرة الخليجية التي رسمت الخطوط العريضة لعملية انتقالية من مرحلتين، بدأت بانتخابات مجردة من التنافس.

 

إلى ما قبل خروجه من الحكم رسمياً ونقل السلطة بكل إمكاناتها بموجب المبادرة الخليجية، كان خصوم الرئيس صالح لا يكفون عن المجاهرة بكون الانقضاض عليه -قبل نقل السلطة-أمراً بالغ التعقيد نظراً لقبضته الفولاذية على ما كانوا يعتقدون أنها أدوات قوة يمسك بها.

 

في المقابل لم يعط صالح على طول امتداد خط الأزمة السياسية - مطلقا- ما يمكن اعتباره إشارة إلى انه يراهن على الجيش والأمن لحسم الصراع لصالحه، أو أنه كان ينظر لهاتين المؤسستين باعتبارهما سلاحاً سلطوياً بيده يعطيه الأفضلية على الواقع مقارنة بخصومه.

 

وقد أثبت لاحقاً بأنه لم يكن يستمد قوته من الجيش والأمن كما كان يزعم معارضوه، بل من مكان آخر، أفصح عنه في واحد من خطاباته: "استمد قوتي من الشعب بعد أن سلمت السلطة والجيش والأمن".

 

ورغم علم صالح أن حرب خصومه عليه لن تنتهي بنقل السلطة وفق اتفاق التسوية، إلا أنه فضل الانسحاب بهدوء، فلم يكن يشغل باله أكثر من حقن دماء اليمنيين، وإنجاز يتوج به حياته الرئاسية، فكان عليه أن يضع الخطوط العريضة لأول تداول سلمي للسلطة في بلد تعاقب على حكمه عدد من الرؤساء عبر الانقلابات.

 

مع الإشارة إلى أن تحالف الإخوان ذهب للتوقيع على اتفاق نقل السلطة بالرياض، وفي ذهنه نظرية القضاء التدريجي على صالح بعد أن استنفد كافة الأوراق التي كان يراهن عليها لتحقيق هذه المهمة، من حروب استنزاف في أكثر من جبهة وصولاً إلى محاولة تصفية الرئيس الأسبق وكبار قادات الدولة بتفجير مسجد دار الرئاسة.

 

ومع أن التسوية استندت على اتفاق سياسي شامل جوهره التوافق، إلا أن مسار التنفيذ انحرف بشكل كبير، بعيدا عن مبادئ وبنود الاتفاق، نتيجة تعامل تحالف هادي والإخوان بانتقائية مفرطة وصلا إلى استخدامها كأداة لتصفية الخصوم السياسيين، وليس حلا وسطا، لحالة طارئة، جوهره التوافق.

 

 

إدارة المعارك بسلاح السياسية

 

غادر صالح مربع الحكم بهدوء، وانصرف لإدارة شئون حزبه تاركاً الملعب للاعبين السياسيين الجدد، ومن ثم الانتقال إلى الضفة المقابلة للسلطة لتلقين خصومه دروساً مجانية في المعارضة السياسية الناضجة - من هرم حزب المؤتمر، كما وعد بذلك وهو ما يزال في قلب الحكم.

 

بيد أن الخصوم الذين لم يخترهم، اعتقدوا لوهلة أنه أصبح هدفاً سهلاً في متناول سهامهم أكثر من أي وقت مضى.

 

وضع نظام هادي، التزاماته تجاه تنفيذ اتفاق التسوية السياسية جانباً، وتسلح بكميات كبيرة من الحقد الطارئ على شخص صالح، وبدأ في تصويب ضرباته، الواحدة تلو الأخرى، مستغلا قدرة الأخير الافاتيرية على احتمال الأذى.

 

ولعل هذه البالونات المنتفخة بوهم الخارج أغفلت بديهية أن لا قوة تستطيع إخراج صالح من بلده مكرهاً، كما كانت تعتقد، وسبق وأن فشلت محاولاتها لاغتيال الرئيس السابق سياسياً عبر إزاحته من رئاسة المؤتمر، قبل أن تصعد معركتها ضده إلى مطالبات بإخراجه من اليمن ونفيه خارج الحدود، بعد أن استنفدت كافة الأوراق المشروعة وغير المشروعة التي كانت تراهن عليها لتحقيق مهمة القضاء على صالح بأي طريقة، حد زرع العبوات الناسفة في المكان الذي وضع فيه ناصيته في جمعة 3 يونيو 2011 بدار الرئاسة.

 

من وجهة نظر كثيرين، فقد كان من المتعذر جداً، أن يتحمل صالح خلال الفترة الانتقالية ما كان قادراً على تحمله قبل أن يتخفف من أعباء الحكم بلياقة، الأمر ذاته بالنسبة لأنصاره وقواعد وأعضاء وقيادات الحزب الذي يترأسه، ذلك أن فهلوانية خصومه خرجت عن نطاق السيطرة، وسلكت منحى آخر غير المخاصمة السياسية مع قدر يسير من الأخلاق، إلى الفجور السياسي الناقم.

 

ولم يكن يتوقع الفار عبدربه منصور هادي، أن تنتهي معركته ضد كيانه الحزبي بعزله من منصب الرجل الثاني، على ذلك النحو المفاجئ والصادم، إذ إن الإمكانات المادية الضخمة التي توافرت لديه منذ أن وضع يديه على خزينة الدولة، جعلته يعتقد أن الاستيلاء على رئاسة الحزب من خارج الانساق التنظيمية، لا يتطلب أكثر من تحويلات مالية مجزية.

 

وفجرت الرسالة التي بعثها هادي إلى مجلس الأمن الدولي بواسطة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، ومبعوثه إلى اليمن (السابق) جمال بنعمر، بشأن فرض عقوبات على الرئيس صالح، غضباً غير مسبوق في أروقة الحزب، حيث جاءت الردود كاشفة عن قرار تنظيمي بركله خارج أروقة الحزب وكذا عن تحول هام في مسار المواجهة.

 

 

صالح ليس ضعيفاً

 

الآن، وبعد عامين ونيف من العدوان السعودي على اليمن، مازال صالح يحتفظ بموقعه في مقدمة القوى المحلية الأكثر قوة وتأثيراً، رغم أن الرياض حشدت كل إمكاناتها السياسية والمالية والعسكرية والدبلوماسية وركزتها لهدف رئيس يتلخص في اغتيال صالح جسدياً وسياسياً.

 

بيد أن عملية تقييم سريعة لوضع الرئيس صالح وحزبه في الوقت الحالي، مقارنة بوضع خصومه الذين جلبوا العدوان الخارجي، للإجهاز عليه، ستفضي إلى بديهية أن حزب صالح ما زال الأقوى، بل إن شعبيته تتسع يوماً عن آخر.

 

برأي كثيرين فإن ظهور صالح الأخير هوى الأقوى قياساً بالمتغيرات الحاصلة، بيد أن الرجل يبني مواقفه السياسية تحت تأثير ضغط الحاجة الجمعية الملحة، وليس تبعاً لمصالح دائرته الحزبية، في حين يتعامل مع خصومه المحليين من موقع الند وليس الأقوى، رغم أن أبرز القوى المناوئة لصالح وصلت إلى وضع مؤسف أخيراً وتمر بأسوأ مراحل الاحتراق السياسي والشعبي.

 

ويعزز هذا اختيار صالح ذكرى توليه مقاليد الحكم، لدعوة كل الكيانات اليمنية في الداخل والخارج، إلى مصالحة وطنية شاملة، إلى جانب وضع رسائل سياسية في صناديق بريد أطراف وقوى محلية وخارجية من خلال مقالة كتبها في ذكرى توليه مقاليد الحكم.

 

ورغم مقال صالح المقتضب، إلا أن ثمة من عده بمثابة برنامج عمل تحدث فيه بصراحة تستلزم، أيضاً، من المعنيين به قراءته بصراحة مماثلة، واستيعابه جيداً.