د. عبدالعزيز المقالح: عن دولة المؤسسات الحديثة والمجتمع المدني

النظام –أي نظام- يتغير ويتبدّل ، يتلاشى أو يذوب لكن الوطن باقٍ وكذلك هي دولة المؤسسات القائمة على العدالة واحترام القانون. تلك حالة معروفة في العالم المتقدم وتزداد حضوراً ووضوحاً في المرحلة الراهنة من التاريخ الحديث. وقليل هم في بلادنا وربما في بقية الأقطار العربية الذين يدركون هذه الحقيقة ويتابعون المتغيرات على ضوءها في هدوء واستقراء وطني لا يخضع للأوهام والرغبات الذاتية والقراءات الناقصة والمبتسره، والاتجاه نحو بناء الدولة المدنية والعمل على تأسيس معالمها وتبني مقوماتها . هو مفتاح الحل الذي يبحث عنه الجميع أو يزعمون أنهم يبحثون عنه. وهذا المفتاح قد يساعد على فك الاشتباك الدائر بين القوى المتناحرة، لأن من شأنه أن يمتص كل الاهتمامات ويحولها إلى جهد إيجابي في إيجاد الدولة المنتظرة وإعطائها كل الجهد لتقوم وتكون ركيزة التقدم والتصالح والانصراف عن المهاترات العابثة وما أدت وتؤدي إليه من خسران.

وأتذكر الآن، وبعد عشرة أعوام تقريباً، بعض أقوال ذلك المفكر الفرنسي المستعْرب والذي تولى إدارة المعهد الفرنسي بصنعاء، وكان في كل لقاءاتنا يكرر القول بأن الواقع العربي بعامة والواقع في اليمن خاصة يفتقد إلى دولة المؤسسات وهو الشرط الأول في بناء الوطن الآمن المستقر، كما كان هذا المفكر المستعرب لا يكف عن القول بأن لدينا نحن في هذا البلد ما يشغلنا لعشرات السنين من خلال محاربة التخلف والفقر والجهل والقضاء على الفساد الذي تمأسس (أي أصبح مؤسسة قائمة بذاتها وتحول إلى ثقافة سائدة) وكان ذلك المفكر لا يكف عن القول بأهمية إنشاء الدولة المدنية بمؤسساتها التي لا تسقط أو تنهار بسقوط رمز النظام السياسي الذي يتولى الحكم سواء عن طريق الانتخابات أو عن طريق القوة، وكأنه كان يستشعر ما سيحدث في بلادنا من خلال ما بدأ يشهده من خلافات سياسية وانقسامات حادة في وجهات النظر بين الأحزاب وقياداتها المختلفة.

عن دولة المؤسسات الحديثة والمجتمع المدني-------------------------------------- النظام –أي نظام- يتغير ويتبدّل ، يتلاشى...

‎Posted by ‎عبد العزيز المقالح‎ on‎ 24 نوفمبر، 2015

لم يكن أحد من السياسيين في بلادنا يولي هذه الأقوال اهتماماً أو حتى يتوقف لمناقشتها. ولهذا تطورت الخلافات وتسارعت الأحداث ووصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم من عواصف وأعاصير، ومن تمزق نفسي وروحي ومادي لا خلاص منه إلاّ بالإجماع على إقامة الدولة المدنية العادلة التي تمثل الشعب كله وترعى مصالحه ويتساوى في ظل رعايتها جميع المواطنين. وربما كانت الكارثة الراهنة درساً كافياً تتعلم منه الأطراف المعنية كيف تعيد حساباتها وتصلح من أخطائها وتتجنب الوقوع في المزالق التي أدت وتؤدي إلى المنازعات والصراعات العبثية وفقدان السيادة. وليس سوى الشعور الحقيقي بمأساة الوطن ومعاناته الدائمة من وسيلة للتقارب والعمل على فك الاشتباك بين القوى المتناحرة وتحويل المجتمع اليمني من مجتمع طائفي إلى مجتمع مدني متحضّر لكي يتسنى لنا جميعاً الخروج من المحنة الراهنة والدخول إلى القرن الواحد والعشرين.

نريد دولة مدنية لا تسقط بسقوط النظام السياسي، دولة مؤسسات تثبت في وجه الزوابع والاختلافات وتحافظ على الأمن وسيادة القانون وهي حلم اليمنيين منذ الأربعينيات. وكادت تتحقق في أعقاب الثورة الأم 26 سبتمبر لولا التدخلات الخارجية الضخمة والهائلة، لأكثر من ثمان سنوات، والصراعات الداخلية التي أجهضت هذا الحلم ووقفت في وجه تحقق المشروع الخلاصي الذي بدونه تبقى البلاد في مهب الريح نهباً للفوضى والحروب والتدخلات وعرضة للطموحات الرامية إلى اغتصاب السلطة دون وعي أو هدف نبيل.