علماء يحذرون من تدمير إسرائيل لمواقع أثرية تشكل هوية اللبنانيين وتاريخهم
أضرار بعد يوم من غارات إسرائيلية على منطقة ثكنة غورو في مدينة بعلبك في شرق لبنان في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2024. © أ ف ب
بعد مناشدة جهات لبنانية لمنظمة اليونسكو بحماية مواقعه التراثية من الضربات الإسرائيلية، ووسط الخطر المحدق بمواقع تاريخية مدرجة على لائحة التراث العالمي في مدينتي بعلبك وصور، يحذر علماء الآثار من تدمير مواقع أقل أهمية لكنها تشكل هوية اللبنانيين وتاريخهم.
طلب أكثر من مئة نائب لبناني، الخميس الماضي، من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) حماية المواقع التاريخية في بلادهم من القصف الإسرائيلي.
وتقول عالمة الآثار اللبنانية جوان فرشخ بجالي بأسى: "لم يحرك أحد ساكنا إلا بعد أن تعرض موقف سيارات موقع بعلبك الأثري للقصف"، على بعد أمتار قليلة من الآثار التاريخية، وهي بقايا مدينة "هليوبوليس" أي "مدينة الشمس" التي يعود تاريخها إلى العصر الروماني.
أثناء جولة تفقدية مع فريق من الأمم المتحدة غداة استهداف محيط الموقع، لم يلاحظ محافظ بعلبك بشير خضر في تقييم أولي، أي أضرار في معبدي باخوس وجوبيتر داخل المجمع الأثري، لكنه يخشى نتائج تقييم معمق سيقوم به متخصصون. ويقدر أن "معبد (باخوس) لم يتضرر من الخارج، لكنه تأثر بالطبع بالاهتزازات والدخان الأسود الناجم عن الضربة".
في محيط الموقع المذكور، المدرج في قائمة التراث العالمي لعام 1984، تم تحويل مبنى المنشية، الذي يعود تاريخه إلى العصر العثماني، إلى ركام. وتضرر أيضا فندق بالميرا الأسطوري، حيث أقام الامبراطور الألماني فيلهلم الثاني، والجنرال شارل ديغول، ولورنس العرب، وفنانون وكتاب مشهورون مثل الأسطورة اللبنانية فيروز والمغنية الأمريكية إيلا فيتزجيرالد والكاتب الفرنسي جان كوكتو.
يوضح بشير خضر في اتصال هاتفي مع فرانس24 أن "الغارة لم تتسبب في وقوع أي إصابات لأنه لم يكن هناك أحد في موقف السيارات أو في المباني". وأكد "عدم وجود مخبأ لأسلحة حزب الله تحت موقف السيارات"، في حين تقول إسرائيل إنها تستهدف عناصر في الحزب الموالي لإيران والبنية التحتية التابعة له في لبنان.
مواقع أثرية عمرها 11000 سنة
يرى محافظ بعلبك أن هذه الضربات التي استهدفت "حرم الموقع هي رسالة من الإسرائيليين مفادها: تراثكم وثقافتكم في خطر". ويضيف: "نشهد حاليا حربا على تاريخنا وتراثنا وثقافتنا، إنه جرم طمس ذاكرة بلد وشعب"، مذكرا بأنه حتى خلال الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990) وحرب تموز/يوليو 2006 بين إسرائيل وحزب الله، لم يتعرض التراث الثقافي اللبناني للخطر مثل ذلك الذي يواجه منذ فتح الحزب "جبهة الإسناد" لحركة حماس غداة شنها هجمات على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ما أدى إلى اندلاع حرب مدمرة في قطاع غزة.
في الرسالة الموجهة إلى مديرة اليونسكو أودري أزولاي، أكد النواب اللبنانيون على "الحاجة الملحة" لمواجهة الضربات الإسرائيلية المكثفة، داعين إياها "لإعطاء الأولوية بشكل عاجل لحماية هذه المواقع التاريخية، من خلال تعبئة سلطة اليونيسكو، وتأمين الانتباه الدولي، والدعوة لاتخاذ التدابير الحمائية كافة".
كانت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية قد أطلقت قبل بضعة أيام نداء مماثلا إلى المنظمات الدولية ورؤساء البعثات الدبلوماسية، مشددة على أهمية الموقع الأثري. وقالت في بيان: "يعود تاريخ بعلبك إلى أكثر من 11 ألف عام، حيث يحتوي موقعها على آثار فينيقية ورومانية وعربية وتُعتبر هياكلها ومعابدها الرومانية من الأكبر والأكثر حفظا في العالم".
وأوضحت اللجنة التي تنظم منذ 75 عاما عروضا فنية شهيرة في الموقع الأثري، أن "الاعتداءات طالت محيط القلعة الأثرية مما أسفر عن أضرار مباشرة لأحد معالمها المعروف بثكنة غورو، بالإضافة إلى الأضرار غير المباشرة الناتجة عن الدخان الأسود والانفجارات التي أثرت على الأحجار القديمة وتسببت في تصدعات في الهياكل الهشة". وأضافت: "تمثل هذه الاعتداءات انتهاكا صارخا للقوانين والأعراف الدولية، بما في ذلك اتفاقية التراث العالمي لعام 1972 واتفاقية لاهاي لعام 1954 حول حماية التراث في مناطق النزاعات".
التراث معرض للخطر مع "كل ساعة تمر"
وتقول رئيسة مهرجانات بعلبك الدولية نايلة دو فريج إن "الجميع يكتب رسائل (مناشدة)، سواء كانوا رؤساء نقابات المحامين، النواب أو المديرية العامة للآثار... لكن ينبغي أن تكون (استجابة) إدارة اليونيسكو أسرع. فإذا تأخرت في الرد، سيكون الأوان قد فات".
بناء على طلب لبنان، ستعقد "لجنة حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح" التابعة لليونيسكو، في 18 تشرين الثاني/نوفمبر في باريس، جلسة استثنائية للنظر في أمر مواقع أثرية في بلد الأرز.
وتضيف دو فريج: "على المنظمة أن تتحرك بسرعة كبيرة، حتى قبل 18 تشرين الثاني/نوفمبر، فكل ساعة تمر يمكن أن تعرض هذا التراث للخطر".
وأوضح سفير لبنان لدى اليونيسكو مصطفى أديب أن "رئيسة المديرية العامة للآثار قد أعدت قائمة تضم 34 موقعا معرضا حاليا للخطر في لبنان لطلب حماية معززة لها"، مؤكدا استنفار العديد من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني اللبناني. وقال من برلين: "إنه كنز ليس فقط للبنان بل للبشرية جمعاء، ونحن ننتظر موقفا قويا لحمايته".
من جانبه، يرى رئيس مؤسسة "غايا" للتراث والمدير الموقت السابق لمركز التراث العالمي التابع لليونسكو جورج زوين أن "الوضع أكثر من مأساوي. تكفي رؤية الدمار حول الموقع لندرك العنف الجنوني الذي شهدته الأيام الأخيرة".
وتفيد عالمة الآثار جوان فرشخ بجالي وهي رئيس منظمة "بلادي" غير الحكومية المتخصصة في حماية التراث، أن "طلب الحماية المعززة هو إجراء طويل نتائجه غير مضمونة"، مضيفة أن "الحماية المعززة تُمنح للمواقع ذات القيمة التي لا تقدر بثمن، فيُحظر بشكل مبدئي على الأطراف المتحاربة التعرض لها".
بالنسبة لنايلة دو فريج، تنبغي أيضا "حماية الذاكرة". وتقول: "هناك التراث المرئي، أي الحجر والمعالم التاريخية التي عمرها آلاف السنين. لكن هناك أيضا التراث غير المرئي، أي الذاكرة، البشر، الفولكلور، والثقافة. يتعين الدفاع عن النسيج الاجتماعي الذي انبثق عن مهرجانات" بعلبك.
التراث المحلي مهدد أيضا
بالإضافة إلى بعلبك، فإن مواقع أثرية عديدة في شرق لبنان وجنوبه، معقلَي حزب الله، مهددة حاليا أو سبق أن طالتها الغارات الإسرائيلية منذ بدء الحرب المفتوحة بين الطرفين في 23 سبتمبر/أيلول. ومنذ نهاية تشرين الأول/أكتوبر، أصبحت مدينة صور الساحلية، وهي مدينة فينيقية قديمة تضم أيضا مواقع مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، هدفا للضربات الإسرائيلية.
ويقول أستاذ التاريخ واللغات القديمة والتراث في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف في بيروت مارون خريش إن "صور وبعلبك وغيرها من مواقع التراث العالمي تتسم بأهمية كبيرة بالطبع، لكن يجب ألا ننسى مواقع التراث الوطني والمحلي". ويضيف: "بالنسبة لي، فإن التهديدات التي يتعرض لها التراث المحلي أكثر خطورة من تلك التي تتعرض لها المعالم الأثرية في بعلبك وصور التي يُسلَّط الضوء عليها". ويذكر الباحث في هذا السياق المنازل والمساجد والكنائس والأسواق والأضرحة التي دمرتها الحرب بالكامل. في النبطية، دُمر بالكامل سوق عمره 400 عام. ويقول إنه "في علما الشعب، دُمر جزء من وسط المدينة ومبانٍ يعود تاريخها إلى قرون عدة، وتعد نموذجا نادرا للبناء الريفي في لبنان".
محو الذاكرة الجماعية
بالإضافة إلى المواقع الأثرية المعروفة، تم تدمير قرابة 30 قرية بالكامل في جنوب لبنان منذ 23 أيلول/سبتمبر، بينها يارون وميس الجبل، كما تُظهر صور التقطتها طائرات مسيرة ومقاطع فيديو نشرها الجيش الإسرائيلي أو جنود إسرائيليون على شبكات التواصل الاجتماعي.
ويعتبر مارون خريش أن "تدمير قرى بأكملها، أي (تدمير) التراث المادي، يؤثر أيضا على التراث غير المادي"، مضيفا أن "الذاكرة الجماعية تختفي مع اختفاء المواقع وإخلاء الناس لقراهم. إذن من مصلحة اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم حاليا، تدمير كل هذه المعالم حتى يتمكن من المطالبة بالأرض التي يزعم أنّ الله منحه إياها".
وتؤكد جوان فرشخ بجالي أن "الأساليب التي تهدف إلى محو الآخر وإقصاؤه، استخدمها ’داعش‘ (تنظيم ’الدولة الإسلامية‘) وحركة طالبان"، مشيرة إلى أنها تدرك "أنها تعابير قوية لكني لن أمضغها لأن ما يفعله (الإسرائيليون) هو أمر فظيع".
وتقول عالمة الآثار: "لا تحق لأحد مهاجمة الامتداد التاريخي للآخر، وإلا فهو يكون يقتلعه من جذوره".