حيّز من المخالفات.. القضاء اليمني في مواجهة فساد منظمات الأمم المتحدة

كثيراً ما ذرفت الأمم المتحدة ومنظماتها العاملة في اليمن دموعها باسم الأزمة الإنسانية "الأسوأ عالمياً"، والأكثر منها ما ذرفته في مؤتمرات المانحين المباشرة والافتراضية، إلا أنها الدموع الأممية التي تصطاد بها فرائس المساعدات الإنسانية المزعومة لليمن الذي ترفض السماح له التقاط ولو فرصة تعافٍ يتيمة، علاوة على عقد صفقات مشبوهة مع طرفي النزاع، وتمويل أنشطة عسكرية للحوثيين وغيرها. وثّقت جميعها تقارير منظمات حقوقية، ضمنت بموجبها إصدار توجيهات قضائية وفتح ملف للتحقيق في ذلك، ما يحتم التفافاً واسعاً لنجاح تطبيق مبدأ الثواب والعقاب لطالما تغنت به كثيراً وزوراً، حتى لا تموت تلك التوجيهات في أدراج التخادمات.

قالت مصادر قضائية، إن النائب العام بالجمهورية اليمنية الدكتور قاهر مصطفى، وجّه النيابة العامة في محافظة مأرب، بالتحقيق في مضامين التقرير الحقوقي المشترك "دعم الموت.. شراكة في الجريمة".

ويوثق التقرير، أدلة لتورط هيئات ومكاتب تابعة للأمم المتحدة في اليمن بتقديم الدعم المالي والعيني واللوجستي لجماعة الحوثي وجهات أخرى تتبعها تحت مسميات مختلفة بينها نزع الألغام والتوعية بمخاطرها.

وفي أكتوبر 2022م، أصدرت خمس منظمات حقوقية محلية على رأسها الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات "هود"- فريق إقليم سبأ، كشف عن تقديم مكاتب ووكالات تابعة للأمم المتحدة مبلغ 176 مليون دولار تحت يافطة نزع الألغام والتوعية بمخاطرها.

واستغلت مليشيا الحوثي الدعم المقدم من الأمم المتحدة وتحديداً في بند مكافحة الألغام، لأغراض عسكرية بحتة منها تمويل حربها ضد أبناء الشعب، وتطوير قدراتها في تصنيع الألغام والعبوات الناسفة واستخدامها لقتل المدنيين، وفقاً للتقرير.

وسلّمت المنظمات التي أعدّت التقرير نسخة منه للنائب العام، وطالبت بالتحقيق فيما أورده، والعمل لما من شأنه إيقاف الدعم الأممي للحوثيين تحت مسميات إنسانية، ومحاسبة المتورطين في قتل وإصابة وتشويه عشرات اليمنيين، وتجويع مئات الآلاف من السكان الذين تضررت مزارعهم ومصادر عيشهم وقيّدت حركتهم وتنقلاتهم.

وبحسب مصادر حقوقية، فإن نيابة مأرب العامة، شرعت بعد توجيه النائب العام بالتحقيق في الوقائع والمعلومات التي أوردها التقرير.

كما استدعت عدداً من المسئولين لسماع أقوالهم والسير في إجراءات التحقيق، كأول مرة منذ بداية الحرب يتم التحقيق في دعم قُدّم لمليشيا الحوثي التي تم تصنيفها، مؤخراً، "جماعة إرهابية". وفق المصادر.

نهب أموال المشاريع

في السياق، قال رئيس حملة (لن نصمت) الدكتور عبدالقادر الخراز، لوكالة خبر، إن هناك الكثير من البلاغات التي قدمت ضد بعض المنظمات الدولية للنائب العام تم تحويل بعضها، والبعض -للاسف- تم الضغط لإيقاف التحقيق فيها.

وأضاف: إن الكثير من المشاريع التي قدمت تحولت إلى وهمية، ونهبت أموالها، من بينها -على سبيل المثال- البرنامج السعودي لإعادة إعمار اليمن الذي أطلق عليه تسمية برنامج "إعادة ملء البطون"، مشيراً إلى أنهم فضحوا وبالوثائق فساد مشروع البرنامج المتمثل في إنارة شوارع مدينة مأرب بالطاقة الشمسية.

وأفاد أنهم قدموا عروض أسعار من أفضل الشركات الدولية وبمواصفات عالية الجودة بقيمة إجمالية بلغت مائتي ألف دولار، في الوقت الذي كان البرنامج قد أقر تنفيذه بمبلغ خيالي بلغ نحو مليون و70 ألف دولار، موضحاً أنه في حال تنفيذ المشروع وبمواصفات جيدة يكون قد نُهب من أمواله مبلغ 800 ألف دولار. إلا أنه تم التنفيذ بمواصفات رديئة لا تتجاوز كلفتها 70 ألف دولار، (ولذلك أطلقنا عليه تسميه مشروع "المليون دولار" المنهوب)، حد تعبيره.

وأشار إلى هناك الكثير من المشاريع الوهمية وغير المجدية، والضعيفة، والمؤقتة والمحدودة بعدة أشهر، وجميعها تُصرف عليها عشرات الملايين رغم انتهائها سريعا، في الوقت الذي كانت هذه المبالغ كفيلة بتأسيس مشاريع تنموية طويلة الأمد.

ومع مرور 8 سنوات من عمر الحرب في اليمن، وهو نفس عمر أنشطة المنظمات الأممية، إلا أن الأخيرة ما زالت رافضة تحويل مشاريع قطاعاتها إلى (مستدامة) بدلاً عن (طارئة)، رغبة منها في تفاقم المعاناة الإنسانية التي تشكِّل بالنسبة لها مورداً اقتصادياً هاماً.

منظمات الحرب

فساد قطاع الأغذية والأدوية لدى المنظمات الأممية والمحلية، وبشقيه الاستيراد والتخزين، لا يقل شأناً عن بقية القطاعات. وهو ما وثقته تقارير حقوقية عدة.

وأكد الدكتور الخراز رئيس حملة (لن نصمت)، أن هناك فساداً كبيراً في قطاع الأغذية التي يتم استيرادها، والأخطر من ذلك صفقات فساد ابرمتها هذه المنظمات بالشراكة مع بعض المنظمات المحلية التي كان يؤمل منها أن تكون أكثر استشعارا للمعاناة اليمنية، مشيرا إلى أنها "تقوم باستيراد أدوية باسم المنظمات الدولية على اعتبار أنها مساعدات، ولكنها تقوم ببيعها في الأسواق ولا توزعها على المحتاجين"، مضيفاً: "شبكة الفساد في هذا القطاع توسعت لتشمل مواد البناء وغيرها".

صافر.. جريمة مشتركة

ويجدد الخراز تأكيده، على أن هناك تلاعباً واستثماراً كبيراً للأزمة الإنسانية في اليمن، حيث أصبحت تجارة بالنسبة لمن أسماها بـ"منظمات الحرب"، التي يراها وآخرون أحد أسباب استمرار الأزمة وتفاقم المعاناة، بلوغا درجة التسول باسم اليمنيين ومعاناتهم، مستشهداً على ذلك بحال ناقلة النفط "صافر" المحملة بالنفط، والراسية في عرض البحر الأحمر منذ العام 2015م، نتيجة رفض الحوثيين السماح بالوصول إليها، والتي تهدد بكارثة بيئية، نتيجة تآكل أجزاء من جسمها.

وبعد أن أمعنت الأمم المتحدة في تسولها بالحاجة إلى تمويل لتفريغ الناقلة "صافر"، تجنباً لكارثة بيئية، أكد مراقبون لوكالة خبر، رغبتها في عرقلة تفريغ الناقلة، فهي لأكثر من سبع سنوات تساوم المليشيا الحوثية دونما ضغط جاد، لا سيما ووقوع الكارثة سيمنحها فرص تسول ربحية أكبر.

وبينما تساءل المراقبون: في ظل إجماع وتشديد خبراء البيئة على الآثار الكارثية على البيئة البحرية حال تسرّب النفط الخام من الناقلة، والتي قد تصل لعقود، لماذا لم تتخذ الأمم المتحدة موقفا جادا يثبت جديتها في تفريغ الحمولة وتغطية تمويل العملية من قيمة النفط نفسه؟ مضيفين: الموقف الضبابي للأمم المتحدة يجعلها شريكة في مسببات الكارثة، إلا إذا كانت المليشيا الحوثية وبتعاون الأولى قد أفرغت الشحنة أو جزءاً منها في وقت سابق، وتستخدم البحث عن تمويل كتمويه من جهة، ولربحية إضافية من جهة أخرى.

ثلاثي نهب المساعدات

إلى ذلك، تمثل الميزانيات التشغيلية للمنظمات الأممية والعاملة في المجال الإنساني بكامل اليمن، واحدة من أكبر بؤر الفساد ونهب أموال المساعدات المقدمة للشعب اليمني، حيث تنفق في هذا البند نحو 60 في المئة، على اعتبار أنها مقابل إيجارات مقار ورواتب موظفين ونثريات اجتماعات وورش عمل ومسوحات.. في حين الكلفة الحقيقية لذلك لا تتجاوز 20 في المئة، ولا يتوجب أن تزيد عن ذلك حتى وإن رغبت هذه المنظمات برصد مبالغ خيالية باعتبارها تؤثر على حاجة المستفيدين، ويكفي الاستشهاد على ذلك بجودة وحجم وكلفة المشاريع المنفذة بتمويل كويتي وبنفقات تشغيلية لا تتجاوز 5 في المئة.

وفي السياق، يكشف الدكتور الخراز عن فساد أوسع في هذا المجال تحديدا، حيث أكد أن هناك تقارير كثيرة توضح أن المنظمات الأممية خصصت مرتبات بآلاف وعشرات آلاف الدولارات لقيادات في كلا طرفي الصراع (صنعاء وعدن)، مقابل التزام الصمت تجاه الكثير من فسادها، في أوسع تخادم بين ثلاثي نهب المساعدات.

وبالرغم من الزيادة في تمويل مساعدات اليمنيين، الذي تعلن عنه العديد من البلدان والجهات الدولية بين حين وآخر، وفي أكثر من مجال، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً في الواقع إلا بالنسبة للمتخمين الذين يلهثون طلباً المزيد باسم البطون الخاوية.

وفي آخر رصد، حصلت اليمن في أقل من 20 يوماً من يناير 2023م على تمويل خارجي لمساعدات بقيمة إجمالية بلغت 174 مليون دولار، حصل برنامج الغذاء العالمي على 60 مليون دولار منها، بنسبة 34 في المئة، سارع على إثرها وبصورة عاجلة بتخصيص 5 ملايين دولار للأعمال اللوجستية، في أوسع عبث ممنهج وغير إنساني، بينما حصلت منظمة اليونيسف على 18 في المئة من إجمالي ذات التمويل، فيما بقية النسبة توزعت على قطاعات أخرى جميعها تُدار أممياً.

خصخصة وتخادمات

وفي أغسطس من العام 2019م، كشف تحقيق صحفي لوكالة أمريكية، تورط أكثر من عشرة عمال إغاثة أمميين، بالكسب غير المشروع والتعاون مع المتحاربين من جميع الأطراف لإثراء أنفسهم من المواد الغذائية والأدوية والوقود والأموال المتبرع بها دولياً.

بينما منع مسلحو جماعة الحوثي -خلال تلك الفترة- محققين تابعين للأمم المتحدة من مغادرة صنعاء وبحوزتهم أجهزة كمبيوتر محمولة ومحركات أقراص خارجية تدين الموظفين الأمميين وقيادات الحوثي بالفساد والتلاعب بالمساعدات الإنسانية في اليمن، وقاموا بمصادرتها.

في حين ذكرت تقارير، أن أشخاصاً غير مؤهلين تم توظيفهم في وظائف ذات رواتب عالية بمنظمة الصحة العالمية، وإيداع مئات الآلاف من الدولارات في حسابات مصرفية شخصية خاصة بهم، والموافقة على إبرام عشرات العقود المشبوهة دون توفر المستندات المناسبة، وفقدان أطنان الأدوية والوقود المتبرع بها.

وفي ذات الصدد، ذكر التقرير السنوي للمدقق الداخلي، لعام 2018 للأنشطة في جميع أنحاء العالم، أن الضوابط المالية والإدارية في مكتب اليمن الذي يديره "زاغاريا" كانت "غير مرضية" -في إشارة صريحة إلى صفقات الفساد-، لافتاً إلى وجود مخالفات في التوظيف وعقود تم إبرامها دون منافسة ونقص في الرقابة على المشتريات. بينما أكد -حينها- متحدث الصحة العالمية، تاريك جاساريفيتش، أن "مكتب خدمات الرقابة الداخلية يحقق حالياً في جميع المخاوف التي أثيرت..".

وكشفت الوثائق الداخلية، أنه تم الاتفاق مع شركات محلية لتقديم خدمات في مكتب المنظمة بعدن، تبين أنها تضم أصدقاء وأفراد عائلات موظفي المنظمة وبتكلفة إضافية مقابل الخدمات.

أين الأموال؟

وأفاد تقرير سرّي للجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية باليمن، أن سلطات الحوثي مارست ضغوطاً مستمرة على وكالات الإغاثة، لإجبارها على توظيف موالين لهم، وإرهابهم بالتهديد بإلغاء التأشيرات بهدف السيطرة على تحركاتهم وتنفيذ مشروعات بعينها.

ومع أن وكالات الأمم المتحدة اتخذت بعض الإجراءات، إلا أنها لم ترق إلى مستوى التحقيقات اللازمة لتتبع ملايين الدولارات من الإمدادات والأموال من برامج المساعدات التي فقدت أو تم تحويلها إلى خزائن المسؤولين المحليين على جانبي الصراع منذ بداية الحرب الأهلية. ما دفع ناشطين لشن حملة  بعنوان "أين هي أموال المساعدات؟"، طالبوا فيها بتقديم تقارير مالية حول كيفية تدفق وإنفاق مئات الملايين منذ عام 2015م.

وتظل الأنشطة الأممية موبوءة في ظل عدم إخضاعها لرقابة ومحاسبة مشتركة دولية وكذلك محلية تضم فريقا من المشهود لهم بالنزاهة في البلدان المستهدفة، حرصاً على عدم حرف مسار المساعدات وتوظيفها فيما يخدم مصالح دولية وأخرى متعلقة بأي من أطراف النزاعات الداخلية، وما دون ذلك ستظل المناشدات بالمحاسبة كمن "يحرث في الماء".