"اغتيال الضوء" جار الله عمر.. الرجل المغدور خلف الكواليس

أمام منصة خطابية عامة، منصة ظاهرها حزبي وسياسي، وباطنها فكري وجهادي، يقابلها أربعة آلاف شخص ينتمون لحزب التجمع اليمني للإصلاح، بينما السياسيون والحزبيون ورجال الدين والدولة والقبائل يجلسون في مقدمة الصفوف، وكاميرات الإعلام الرسمي يصورن الحدث بنقل مباشر لمجريات المؤتمر العام الثالث لحزب الإصلاح في مثل هذا اليوم الثامن والعشرين من ديسمبر عام 2002، يومها وقف رجل أربعيني تعلوه لحية سوداء كثيفة، من مكانه في الصف الثاني وهو يصرخ ويقول: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ثم أطلق رصاصتين باتجاه سياسي يمني انتهى للتو من خطابه الذي قال فيه: نحن أمام ضرورة ملحة للتصدي لثقافة العنف ومنع الثارات ومواجهة التطرف والإسراع في إصدار قانون ينظم حيازة وحمل السلاح ومنع المتاجرة به، بدلًا من قانون منع المظاهرات.. مضيفًا: الديمقراطية منظومة متكاملة لا تتجزأ، أساسها المواطنة المتساوية، واحترام العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين، وصيانة الحريات والحقوق الأساسية دونما تمييز لأي سبب كان، والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية، كانت هذه الكلمات والعبارات آخر ما قاله الشهيد جار الله عمر، السياسي المتوازن، واليساري الذكي، والفيلسوف الاستثنائي، رائد التغيير والانفتاح، ومهندس اللقاء المشترك، وأحد مؤسسي الحزب الاشتراكي وقيادة الجبهة الوطنية، وأبرز المفاوضين في ملف الوحدة الوطنية، وابن منطقة قهال في مديرية النادرة محافظة إب.

في ذلك اليوم الحزين، قُتل أحد أهم وأعظم المشاريع السياسية والوطنية والمستقبلية، المشاريع المغدورة حتمًا بفعل التطرف الديني المغروس في عقول الكائنات البشرية المفرغة تمامًا من كل معاني الحياة والتعايش، قتله أحد طلاب جامعة الإيمان الدينية، أو الجامعة المفخخة لمعالم حياة اليمنيين ومستقبلهم المجهول، أحد أعضاء وكوادر وأفراد ومخرجات تنظيم الإسلام السياسي بمعناه الجهادي الباطن، التنظيم الفكري المختلف تمامًا عن الأفكار الظاهرة والقناعات السياسية، وهنا حقيقة مهمة، مفادها أن التجمع اليمني للإصلاح كحزب سياسي لم يقتل جار الله عمر، الفكر الجهادي المتطرف والمغروس في عقول معظم ملتحقي ومنتسبي حركة الإخوان المسلمين فرع اليمن هي من اغتالته وقتلته، برصاصتين من مسدس مشحون بحالة من الفكر والاستعلاء، والتطرف، والغلو الديني المتفاقم بالنهج والتدريس. رصاصتان فقط حولتا الواقع السياسي اليمني آنذاك لكابوس من الخوف والتوجس والشكوك والاتهامات السياسية المتبادلة، كابوس وطني عام أنتجته حالة فكرية متطرفة في رأس كائن بشري قدم نفسه فداءً لأفكار مطلقة جعلته يجزم بالأفضلية والأحقية وضرورة الجهاد والنيل من كل علماني ويساري لا يريد تطبيق شرع الله في الحكم، بحسب اعتقاداتهم القاصرة، ليس الأمر بالصعب، أو الشاق، أو الغامض، أو الغريب، لطالما نفذ هذا الفكر الديني عملياته التصفوية لكثير من الشخصيات السياسية والفكرية واليسارية والرسمية، عبر تاريخ طويل من الدم والفتك والاغتيالات..

من المهم جدًا تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بقضايا حساسة جدًا في تاريخ الشعوب وواقعهم ومستقبلهم، جارالله عمر قُتل برصاص أدمغة الشباب المغسولة بالأيديولوجيا والأصوليات، الشباب الملتحق لعقود وسنوات بحلقات التنظيم السرية، وشُعب المربين، ولقاءات القادة، ورسائل البنا، والأصوليات العشرين، وفلسفة سيد قطب التي صاغت عبارته المشهورة ومبدأه الأوحد: الجهاد عن طريق طليعة مؤمنة، وجيل قرآني، هو الحل لتخليص المجتمع من حكم الطاغوت"؛ أفكار سيد قطب آنذاك كانت قد اختمرت في عقول جيل جديد اعتمدت عليه بقية التشكيلات في بناء القضية المركزية لفكر التنظيم التي تدور حول التحذير من المجتمع (الكافر) الذي لا بد من هجره ومغادرته، أما مَن لا يستطيع الهجرة بعيدًا عنه، وجب عليه أن يهاجر بنفسه عن المجتمع (الكافر)، فيترك مدرسته وعمله وأسرته ويهاجر إلى الجماعة، ليقيم مع مجموعة من أعضائها، ولينشئوا لأنفسهم مجتمعاً خاصًا بهم، ليجاهدوا من خلاله، ويحققون أفكارهم الجهادية بشتى الوسائل والإمكانيات، يلي ذلك الأفكار التي صاغها شكري مصطفى، أحد تلاميذ سيد قطب وصاحب رؤية التكفير والهجرة، وهي ذاتها ما صاغه القيادي الجهادي محمد عبدالسلام في كتابه "الفريضة الغائبة"، وهو الكتاب الذي أصبح الأساس الفكري لتنظيم الجهاد وأيمن الظواهري ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الجحيم.

جماعة الإخوان المسلمين هي الأم الشرعية لكل الأفكار والتنظيمات الدينية المتصلة بـ الإسلام السياسي، إذ لم تتوقف التنظيمات العنقودية المتبادلة بين الجماعات المختلفة، من الانتشار والتشكل، بدءًا من أشدها تطرفًا، وصولًا إلى أكثرها اعتدالًا، لكنها وبالرغم من ذلك، تبقي حقيقة الولاء المطلق للمشروع الفكري على حساب الوطن الذي يعتبرونه مجرد حفنة من التراب، بحسب أحد مفكريهم، الذي قال أيضًا: إن فكرة الوطن غير واضحة على الإطلاق، ولا مستقرة في ذهن أصحاب الدعوة إلى الله، لأن الدعوة ومشروع الحكم الأحق يكون على مستوى الأمة المترابطة بالدين والولاء والبراء، ومن هنا نشأت منظومة التفكير المتطرف، عبر الخروج عن القواعد الفكرية والقيم والمعايير والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمع، الفكر المتحول من مجرد فكر إلى سلوك ظاهري أو عمل سياسي، يلجأ إلى استخدام العنف والتصفية والتضحية بالذات كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الشخص كفكر عقائدي لا ينتابه أي شك..

إن الفكر الذي أفرزته عقود طويلة من العمل السري والعلني للإسلام السياسي في أوساط المجتمع اليمني بتلك الآونة خصوصًا، وهي الفترة الزمنية الأكثر رواجًا وانتشارًا في الواقع اليمني، أنتج واقعًا مفخخًا ومهددًا للمخالفين أو المنفتحين بكل المقاييس، هذا الفكر آنذاك كان يعتبر وما يزال كل خلاف معه محرمًا، وعليه إقصاؤه وإلغاؤه واستئصاله، محاولًا بسط سلطانه وإرادته على محيطه بالقوة، وبدلًا من الإقناع والحوار يلجأ المتطرف إلى الاغتيال والقتل والتفجير والمفخخات..
خارج أي اعتبار إنساني، طالما تتلبسه فكرة امتلاك الحق، إذ لا يمكن للتطرف أن يصبح عنفًا أو إجرامًا أو فعلاً ارتكابيًا ضد الإنسان، إلا إذا تمكن من التوغل إلى العقول، وهذا غالبًا ما يتم عبر عمليات غسل الأدمغة تمامًا، بحيث تعمى البصيرة وتعطل العقول وتشل المشاعر الإنسانية، ليقوم المرتكب بأفعاله التي يظنها جهادية خالصة وعاقبتها جنة وحور عين أو سيطرة دنيوية أساسها تحكيم شرع الله، وجعل كلمة الله هي الأعلى، وتمكين البشر الصالحين في الأرض..

الواقع العربي عمومًا واليمني خصوصًا، يعيش منذ تلك العقود حالة هشة ومنقسمة وضعيفة، بفعل حركة الإخوان المسلمين، هذه الجماعة لو لم تكن موجودة من أساسها لكان وضع المسلمين والدول العربية أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، ظهور هذه الجماعة ووصولها لمعظم الأقطار والبلدان أدى إلى انقسام المسلمين وتصارعهم وظهور الأفكار التكفيرية والجماعات المناوئة، والتنظيمات المنبثقة من الأدمغة التي تريد أن تحقق فكرة القيادة والمنهجية الأحق والأصلح..
 
أخيرًا،

رحم الله الرفيق جار الله عمر، لم تقتله السياسة، ولا التعقيدات السياسية، قتله الفكر المتطرف، والقاعدة الشبابية المتوافقة معه بالباطن سهلت وصول القاتل وتغاضت عن تحضيراته للعملية، هذه حقيقة يجب قولها مهما بلغت التكاليف، التطرف الذي قتل جار الله عمر، هو من قتل الرسامة والفنانة ولاعبة الشطرنج اليمنية لينا مصطفى عبد الخالق في العام 1992، وهو من قتل الكثير من قادة العالم العربي والإسلامي ومفكريه وسياسييه ومخضرميه وبطرق مقاربة تمامًا لاغتيال جار الله أمثال القاضي الخازندار، ومحمود النقراشي، والشيخ محمد الذهبي، والمفكر فرج فودة، ورفعت المحجوب، والكثير الكثير من الأسماء والشخصيات اليسارية والمنفتحة والرسمية.

اليمن خسرت بمقتل جار الله عمر، مشروعًا سياسيًا وحدويًا، ووطنيًا كان سيشكل فارقًا في واقعنا اليمني فيما لو استمر على قيد الحياة، هذه خلاصة ما أريد قوله هنا، وهذا واضح من معالم شخصية الرجل التي صاغها عنه الكاتب والباحث اللبناني فواز طرابلسي، حينما أعاد كثيرًا من ملامح الشهيد في كتاب جديد، قال في مقدمته: في كافة أحواله وتحولاته تلك، كان الصديق والرفيق جارالله عمر يجسّد في نظري الأبرز والأجمل من خصائص شعبه: النبل والتواضع، الجرأة والتسامح، التشدد في المبادئ والمرونة في مسارات تحقيقها، فضلا عن ذلك المزيج المميّز من الدهاء والصدق الذي يكتشفه لديه جميع الذين عرفوه. إلى هذه أضاف جارالله دروس تجربته النضالية والثقافية اليسارية، المتحررة من شوائبها وأخطائها، الجريئة في تحوّلاتها. فكان مؤمنا وعلمانيا، متمسكا بالوحدة اليمنية كإنجاز تاريخي وناقدا في الآن ذاته لكافة أشكال التمييز والاستبداد التي مورست باسمها، جمع الدعوة التعددية الديمقراطية إلى أفق النضال مع أجل الديمقراطية الاجتماعية، محاورا ابداً، ناجحا في ان يكون وطنيا يمنياً وعميق الانتماء القومي العربي وواسع الانفتاح عالميا.

ماجد زايد
كاتب يمني، وناشط سياسي
28.ديسمبر.2021