انفجار بيروت حطّم "روح" المدينة وخلّف صدمة تسكن الناجين

لايزال الناجون من الانفجار المدمر في مرفأ بيروت يعيشون تحت وقع صدمة، رغم مرور عام على الانفجار الذي أودى بحياة 214 شخصاً وأصيب فيه أكثر من 6500 آخرين. وما يزيد معاناتهم هو عدم كشف الحقيقة أو محاسبة المسؤولين.

بعد عام على انفجار مرفأ بيروت، لا يزال الأطباء يخرجون شظايا زجاج من جسد شادي رزق، آخرها قطعة بحجم سنتيمتر تقريباً بقيت عشرة أشهر عالقة في ركبته. يقول رزق (36 عاماً): "أجد كلّ شهر تقريباً شظية زجاج جديدة في جسدي.. لا يزال هناك زجاج في فخدي ورجلي، وأعتقد في يدّي أيضاً"، ويضيف "الانفجار يعيش في داخلي وسيبقى كذلك كل حياتي".

كان رزق يقف على شرفة مكتبه المطل على مرفأ بيروت حين اندلع الحريق الذي سبق الانفجار. حمل هاتفه الجوّال وبدأ بتصوير الدخان الأسود المتصاعد، لكن ما هي سوى دقائق حتى وقعت الكارثة. وثّق شادي الثواني الأولى من الانفجار، بينما سقطت عليه ألواح الزجاج. وخاط الأطباء 350 قطبة في جسد شادي، والطريق أمامه لا تزال طويلة، فقد أبلغه الأطباء مؤخراً أنه سيحتاج سنوات لإخراج كافة قطع الزجاج العالقة في جسده.

"صدمة تنهش من الداخل" في الرابع من آب/أغسطس 2020، أودى انفجار مرفأ بيروت بحياة 214 شخصاً وأصيب فيه اكثر من 6500 شخص، ودمّر أحياء عدة في المدينة. وعزته السلطات إلى انفجار 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم مخزنة منذ العام 2014 في العنبر رقم 12 في المرفأ.

يقول شادي: "تحوّلتُ إلى شخص آخر بعد الانفجار.. تغيّر كلّ شيء في حياتي". قبل الانفجار، وبرغم الأزمة الاقتصادية، لم يخطر في بال شادي أن يهاجر. اليوم، ينتظر الرحيل "بفارغ الصبر" إلى كندا، ويضيف: "الصدمة تنهشك من الداخل.. وكأنك في حالة بكاء دائم، في داخلك".  

مرّ عام على الانفجار الذي غير وجه المدينة، من دون أن تكشف حقيقة ما حصل في ذلك اليوم أو يحاسب المسؤولون عنه. وتقف الحصانات السياسية اليوم عائقاً أمام استدعاء نواب ووزراء سابقين ورؤساء أجهزة أمنية وعسكرية كانوا يعلمون، وفق تقارير، بمخاطر تخزين كميات هائلة من نيترات الأمونيوم في المرفأ، ولم يحركوا ساكناً لإخراجها منه.

يقول شادي: "كلما اقتربت ذكرى الرابع من آب (أغسطس) من دون أن يدخل أحد السجن، يكبر الغضب في داخلي.. غضب يجعلك تريد أن تحطّم وأن تتظاهر وأن ترمي قنابل مولوتوف".

ولا يزال المعالج النفسي روني مكتف من جهته يحاول التأقلم مع فقدانه النظر في عينه اليمنى بعد ثلاث عمليات جراحية ورحلات علاج الى أوروبا لاستشارة خبراء، علّه ينقذ بعضاً من قدرته على الرؤية. لكنه اليوم لا يقوى سوى أن يجلس على طرف طاولة أو في زاوية غرفة ليتمكن من رؤية ما حوله بعينه اليسرى فقط. ويقول في عيادته في بيروت التي أصيب بينما كان فيها: "هذا البلد عبارة عن وهم كبير، كما حال كل ما كنا نفخر به حول قدرتنا على تخطي كل الصعوبات لنعيش ونفرح". ويضيف "كل هذا تحطم".

"لا أستوعب ما حصل"! لم يتبق سوى صدمة جماعية في بلد يغرق أكثر في مستنقع من الأزمات والفوضى، ولا حلول لإنقاذه تلوح في الأفق. فقد فاقم الانفجار الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ صيف 2019. وخلال أكثر من عامين خسرت الليرة أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار وبات أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وتشهد البلاد منذ أسابيع أزمة وقود وشحاً في الدواء وتقنيناً شديداً في الكهرباء يصل أحياناً الى 22 ساعة. يقول روني: "نناضل لنعيش وننجو.. لكن ذلك لا يمنحنا الوقت الكافي والسليم لاستيعاب ما حصل".

اقتلع انفجار المرفأ أبواباً ونوافذ لا تحصى في بيروت وضواحيها. ولأيام عديدة، غطّت شوارع العاصمة أكوام من الزجاج المحطم المتساقط من المباني والمنازل والمتاجر. بعد عام، وعلى الرغم من إصلاحات وإعادة بناء بعض الأبنية، لا تزال أضرار كبيرة ناتجة عن الانفجار واضحة المعالم، وطال الدمار مباني أثرية وسكنية.

"روح محطمة"

في شارع مار مخايل القريب من المرفأ، تقول جوليا صبرا (28 عاماً) إنها لم تعد تشعر بالأمان في شقتها التي عادت للسكن فيها بعد خمسة أشهر على وقوع الانفجار.

وتتذكر جوليا تفاصيل ما مرّ عليها في ذلك اليوم المشؤوم. وتروي "كان صديقي غائباً عن الوعي على الأرض والدم يغطي وجهه ورجليه.. ركزت عليه لكنني كنت أردد في نفسي أيضا بأنه لم يعد هناك منزل". عادت جوليا إلى شقتها بعد إصلاحها وبعد أن تحسّن وضعها بعد الصدمة. لكنها لا تزال لا تحتمل أن تسمع أي صوت، وتقول: "نرتعب من الأصوات.. إغلاق الأبواب، العواصف، الرياح، أن يقع شيء على الأرض". يسيطر على جوليا اليوم شعور بـ"الغضب والعجز".

وتضيف: "بعد الانفجار قلنا إنه من المستحيل لهذه الطبقة الحاكمة أن تبقى. إهمالهم وعجزهم وفسادهم فجّر المدينة... بعد سنة لا يزال الوضع كما هو. لا يوجد منطق في أي شي"، وتتابع: "لا راحة.. نحاول أن نعالج أنفسنا من الصدمة والجراح جراء الانفجار، لكن علينا أيضاً أن نتعامل مع الشح اليومي في كل شيء. لا نعرف كيف نتعامل مع كل هذه المشاكل ومن أين نبدأ".

قبل أكثر من أسبوعين، شاركت جوليا مع فرقتها الموسيقية "بوست كاردز" في عرض لمهرجانات بعلبك الدولية ضمّ موسيقيين لبنانيين شباب. وأدّت أغنية باللغة الإنكليزية صُوّرت بين آثار بعلبك تقول فيها "الوطن حزين". وتختم: "هناك شيء تغيّر بعد الانفجار. لا أعرف إذا كان يمكن القول إن بيروت فقدت روحها.. أعتقد أن روحها لا تزال موجودة، لكنها روح محطمة".