كيف نفهم دائرة نشاط غسيل الأموال عالميا؟

تبين العشرات من التحقيقات التي تخص البنوك الدولية الكبرى والعقوبات المفروضة عليها خلال السنوات الأخيرة أن المنظمات الإجرامية تستخدم نفس المؤسسات المالية تماماً مثل الأعمال التجارية المشروعة عندما يتعلق الأمر بإدارة أموالها. ومع زيادة التدقيق في الأنشطة المالية غير المشروعة اضطرت هذه الجماعات للاعتماد على عمليات غسيل الأموال الأكثر تعقيدًا لتجنب كشفها.
 
لا يعتبر غسيل الأموال مجرد أداة مقتصرة فقط على المنظمات الإجرامية التي تسعى إلى إخفاء مصدر أموالها غير المشروعة المتأتية من تجارة المخدرات والسلاح والتحايل، إذ تقوم الجماعات أو الأفراد الذين يمارسون نشاطًا تجاريًا مشروعا بغسيل عائداتهم من أجل التهرب من الضرائب كذلك.
 
ويمكن للدول أن تتورط في أنشطة غسيل الأموال، مثل كوريا الشمالية التي تسعى إلى إعادة الأموال من الهجمات الإلكترونية ذات الدوافع المالية، أو إيران التي تسعى إلى التهرب من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على اقتصادها.
 
وتعد حصة الاقتصاد العالمي، التي يتم غسلها كبيرة إلى حد ما. ويقدر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن الجماعات الإجرامية تغسل ما يعادل بين 800 مليار دولار وتريليوني دولار من الأموال غير المشروعة سنويًا. وهذا يعادل بين اثنين و5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
 
أساليب التفاف مختلفة
 
في حين أن بعض مخططات غسيل الأموال تتجاوز مرحلة الإيداع وتحتفظ بالأصول نقدا، فإن تخزين ونقل مبالغ نقدية كبيرة يمثلان من ضمن الالتزامات المتعددة للجهات الإجرامية. حيث يمكن سرقة تلك الأموال أو إتلافها أو استخدامها كدليل ضد الجهات الإجرامية إذا تم اكتشافها من قبل سلطات إنفاذ القانون.
 
كما أنه ليس حلا عمليا بالنسبة للعمليات التجارية المشروعة الاحتفاظ بإيراداتها نقدًا، وتسعى المنظمات الإجرامية أيضًا إلى تخزين إيراداتها في حسابات بنكية أو أدوات مالية أو أصول أخرى مثل العقارات أو المعادن الثمينة أو الفنون الجميلة بشكل أسهل في الإدارة وأكثر أمانًا.
 
ويعد التمويه هو عملية التعتيم على مصدر الأموال وأين ينتهي بها المسار في النهاية. وهذا التمويه يمكن أن يحدث في صورته الأولية عبر إجراء تحويلات متعددة من حسابات مختلفة، وحتى تنفيذ مخططات غسيل أموال أكثر تعقيدًا والتي تحوّل الأموال إلى أدوات مختلفة، من كونها نقدية إلى أصول مادية ثم إلى نقدية مرة أخرى.
 
ويقول بن ويست محلل الأمن العالمي في مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأميركي “ستراتفور” إن هذه العملية تهدف إلى شل قدرة المحققين على ربط النشاط غير المشروع بأصحابه، أو على الأقل إثارة اللبس الكافي لتجنب المسؤولية القانونية.
 
أما الدمج فهو الخطوة الأخيرة التي تحوّل الأموال غير المشروعة إلى سلع وخدمات مشروعة. وبمجرد إخفاء مصدر الأموال بشكل جيد، يمكن للمتلقي استخدامها لشراء ممتلكات أو سلع فاخرة أو استثمارها في منتجات مالية لا يمكن تمييزها عن السلع والخدمات المشتراة بأموال مكتسبة بشكل قانوني. وعادة ما تتضمن الملاحقات القضائية المرتبطة بغسيل الأموال مصادرة هذه السلع والخدمات.
 
ولتحقيق هذه الخطوات، تعتمد مخططات غسيل الأموال على مجموعة متنوعة من التكتيكات. ومع أن الشبكات الإجرامية تطور باستمرار شبكات جديدة، فإن هناك خمسة أساليب تمثل بعضًا من التكتيكات الأكثر استخدامًا.
 
ورغم عدم مرور كل مخطط لغسيل الأموال بالخطوات الثلاث الموضحة أعلاه، يحقق البعض هدفهم في خطوة واحدة، بينما يركز البعض الآخر على إخفاء الأموال في مرحلة الإيداع إلا أنهم يلتزمون بنموذج الإيداع والتمويه والدمج.
 
وتعد عمليات تبادل العملات غير المشروعة هي عمليات تبادل أموال غير مسجلة في السوق السوداء وهي جزء لا يتجزأ من مراحل الإيداع والتمويه في عملية غسيل الأموال.
 
ويمكن لمبادلات الأموال هذه تحويل الأموال غير المشروعة إلى عملات أجنبية واستخدام الشبكات غير الرسمية لنقل الأموال إلى الدول الأجنبية حيث تكون لوائح مكافحة غسيل الأموال أكثر تساهلًا. وكحد أدنى، يمكن لهذه التبادلات نقل الأموال غير المشروعة خارج الولاية القضائية حيث تم ارتكاب الجريمة الأصلية.
 
ويمكن أن يؤدي القيام بذلك إلى تعقيد التحقيقات عبر طلب المساعدة الأجنبية التي يصعب تنسيقها في الكثير من الأحيان حتى بين الحلفاء الذين يتمتعون بقدرات قوية في مجال إنفاذ القانون، ناهيك عن الدول المتنافسة التي تفتقر إلى الرغبة السياسية في التعاون.
 
والهيكلة والتجزئة هي أيضا تكتيك مرتبط في الغالب بخطوة وضع خطة غسيل الأموال. وتفرض معظم الدول قيودًا على الإيداعات النقدية عندما يتجاوز الأفراد هذه الحدود، ويُطلب من المؤسسات المالية تقديم تقرير عن الإجراءات التي يشتبه بها، مما قد يؤدي إلى فتح باب للمزيد من التحقيق.
 
وغالبًا ما تحاول مخططات غسيل الأموال التي تنطوي على أموال غير مشروعة تزيد عن 10 آلاف دولار في الولايات المتحدة الالتفاف على الحد الأقصى عن طريق تجزئة المجموع إلى مبالغ أصغر تقل عن حد 10 آلاف دولار.
 
وتشمل المخططات الأقل تعقيدًا قيام نفس الشخص بإيداع مبلغ 9999 دولارا في نفس الحساب على مدار أيام متتالية، بينما تجزئ المخططات الأكثر تطورًا المبلغ إلى أحجام مختلفة موزعة عبر حسابات مختلفة مرتبطة بهويات مختلفة في مؤسسات مالية مختلفة في منطقة جغرافية واسعة.
 
وتشتهر قطاعات الحانات والمطاعم والضيافة بعمليات غسيل الأموال بسبب ارتفاع معدل دوران النقد. وبالنظر إلى المخاطر المرتبطة بغسيل الأموال، عادة ما تكون المنظمات الإجرامية على استعداد لقبول بعض الخسائر من أجل تأمين إيراداتها غير المشروعة، ولكن سيكون لديها حد أعلى لتحملها للخسارة.
 
وتسمح الشركات الوهمية / الحسابات الخارجية للأفراد بفصل هويتهم عن أصولهم لتجنب التدقيق القانوني أثناء خطوة الإيداع في عملية غسيل الأموال باستخدام أدوات قانونية خاصة وإنشاء قنوات مالية إلى ولايات قضائية أجنبية.
 
تطويع التكنولوجيا
 
أفاد انتشار التكنولوجيا الجديدة المجرمين، وخلق مجالات جديدة تمامًا للجرائم ذات الدوافع المالية التي تسمح لهم باستغلال البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي للاحتيال على الضحايا في الجانب الآخر من العالم. استغل المحتالون أيضًا أدوات جديدة مثل تطبيقات تحويل الأموال ومنصات الاتصال المشفرة والعملات المشفرة لإخفاء الأموال غير المشروعة.
 
ومثل المستخدمين الشرعيين للتقنيات، يستخدم المجرمون الأدوات الجديدة لأنها مريحة ورخيصة ومعتمدة على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى ذلك، تستفيد عمليات غسيل الأموال من الدرجة العالية من إخفاء الهوية التي توفرها هذه المنصات، مما يدعم الإنكار في حالة تحقيقات إنفاذ القانون.
 
ومع ذلك لا تزال هذه التكنولوجيا الجديدة عرضة للمساءلة القانونية فعندما يعتمد المجرمون على الشركات الخاصة للاتصالات وتحويل الأموال، فإن هذا يعني أن المحققين يمكنهم الوصول إلى السجلات من خلال أوامر مقدمة إلى الشركات المضيفة.
 
وتتعرض العملات المشفرة التي تعمل على تقنية “بلوكتشين”، مثل بيتكوين، أيضًا للتدقيق نظرًا لأن مبالغ المعاملات وأرقام الحسابات هي في الأساس معلومات عامة.
 
كما أن وضع الأنشطة والمعلومات على الأجهزة الإلكترونية الشخصية، يمكّن المحققين من الاستيلاء على هاتف ذكي أو جهاز لوحي أو كمبيوتر محمول ويوفر إمكانية الوصول إلى مجموعة من الأدلة والمعلومات القيمة التي يمكنهم استخدامها لإغلاق عمليات إجرامية أكبر.
 
وتعتبر منصات تحويل الأموال من شخص إلى شخص مثل “زيل” و”فينمو” و”كاش آب” أدوات يمكن للمجرمين استخدامها ضد ضحاياهم لتحويل الأموال في المقام الأول، مما يسهل مرحلة الإيداع. ويقول ويست إن هذه المنصات اكتسبت شعبية خلال فترة الوباء ومن المرجح أن تستمر هذه الشعبية.
 
وبالإضافة إلى ذلك، تساعد منصات تحويل الأموال غاسلي الأموال في عملية التمويه لأنهم يستطيعون نقل الأموال عبر حسابات متعددة، والتشويش على وجهة الأموال وتعقيد جهود التحقيق.
 
والشهر الماضي، صدرت لائحة اتهام ضد أحد تجار المخدرات في مدينة ديترويت بولاية ميتشغان الأميركية باستخدام منصتي “زيل” و”فينمو” لتحويل وإخفاء الأموال غير المشروعة.
 
وفضلا عن ذلك، تتيح خدمات الرسائل المشفرة مثل “واتساب” و”تليغرام” والخدمات الأخرى للمجرمين التواصل في ما بينهم وتنسيق الأنشطة المالية. وفي أغسطس الماضي، قامت وكالات إنفاذ القانون الأميركية بتفكيك عملية غسيل أموال بقيادة تنظيم القاعدة استخدمت واتساب للوصول إلى المتابعين وطلب جمع تبرعات بيتكوين لدعم الشبكات الإرهابية في سوريا.
 
ووفقا لشركة تشين أناليسيز تساعد العملات المشفرة مثل بيتكوين في إخفاء هوية الأصول المالية وجعلها قابلة للتحويل بسهولة في جميع أنحاء العالم، مما يسهل زيادة الأموال المغسولة من حوالي مليار دولار في عام 2018 إلى 2.8 مليار دولار في عام 2019.
 
وتعد العملات المشفرة مفيدة لغاسلي الأموال في خطوات الإيداع والتمويه الخاصة بعملية غسيل الأموال، ولكن تظل نقاط الضعف قائمة.
 
وتدعي تشين أناليسيز أيضا أن 55 في المئة من نشاط العملة المشفرة الإجرامي يتركز في مجموعة فرعية صغيرة من 270 عنوانًا من عناوين بلوكتشين، مما يعني أن المحققين يمكنهم تعطيل غالبية نشاط العملة المشفرة من خلال التركيز على مجموعة صغيرة نسبيا من حسابات المتآمرين.
 
وتعني طبيعة العملات المشفرة وتقنية بلوكتشين التي تدعمها أن المعاملات والتحويلات موثقة بعناية ويمكن للمستخدمين في معظم الحالات مشاهدتها. وفي حين أنه يمكن إخفاء هوية حسابات العملات المشفرة، إلا أنها لا تزال تحمل هويات مميزة مرتبطة بالأفراد الذين يستخدمونها للقيام بنشاط إجرامي.
 
وغالبًا ما تعتمد الأنشطة الإجرامية الإلكترونية التي تبيع المخدرات وغيرها من المنتجات غير المشروعة على معاملات العملات المشفرة لكن الوتيرة الثابتة لتعطيل تطبيق القانون في تلك الأسواق والاعتقالات المرتبطة بها تسلطان الضوء على ضعف أمنها.
 
وعلاوة على ذلك، تخضع عمليات تبادل العملات المشفرة التي تسهل شراء وبيع العملات لمزيد من التدقيق، لأنها تعمل كجسر بين العملات الافتراضية والأسواق المالية التقليدية.
 
شركات الواجهة
 
نظرًا لأن الإجراءات الصارمة ضد القطاع المالي تزيد من صعوبة غسيل الأموال من خلال المؤسسات المصرفية، يمكن للمجرمين استهداف الشركات في القطاعات الأخرى لتنفيذ عمليات غسيل الأموال.
 
ويمكن لشركات الواجهة، مثلا، في أعمال الاستيراد / التصدير أو البناء، أن تتحول إلى عمليات شرعية مدرة للدخل، مما يسمح للجهات الإجرامية بالعمل في الاقتصادات الشرعية وغير المشروعة.
 
وبحسب شركة فينيرغو فرضت السلطات الأميركية التي تسعى إلى القضاء على غسيل الأموال والجرائم المالية الأخرى، عقوبات مالية على الشركات بقيمة 10.4 مليار دولار في عام 2020 بسبب ارتكابها لمخالفات مختلفة، وهي زيادة مقارنة بنحو 8.14 مليار دولار فرضت في عام 2019.
 
وفي حين أن هذه العقوبات تركز بشكل حصري تقريبًا على البنوك والمؤسسات المالية، فإن أي شركة خاصة تقوم بتسهيل غسيل الأموال من المحتمل أن تكون مسؤولة.
 
ويعتقد ويست أن فهم كيفية عمل مخططات غسيل الأموال وتنوع المجرمين المتورطين فيها يمكن أن يساعد المشاريع التجارية المشروعة في تجنب المخاطر المرتبطة بها. وسواء كان الاعتماد على الحسابات المصرفية لتلقي القروض الحكومية المكتسبة عن طريق الاحتيال أو انتحال صفة الشركات الشرعية للاحتيال أو بيع المنتجات المشتراة بأموال غير مشروعة في منافذ البيع بالتجزئة المشروعة، فإن غاسلي الأموال يعتمدون على الاقتصاد الرسمي.
 
ويشير تقييم لتهديدات الجريمة المنظمة في الاتحاد الأوروبي إلى أن 80 في المئة من الشبكات الإجرامية في دول التكتل تستخدم هياكل تجارية قانونية لتنفيذ أنشطتها، بما في ذلك غسيل الأموال القائم على التجارة، والذي ثبت أنه يتضمن على وجه التحديد محاولات لغسيل الأموال غير المشروعة من خلال تجارة السلع التجارية والتجزئة المشروعة.
 
وخلص التقييم إلى أن ذلك يمكن أن يؤدي لاختلاط الأموال غير المشروعة ومن يقف وراءها مع الأعمال التجارية المشروعة مما يشكل مخاطر على السمعة ومخاطر المسؤولية القانونية.