قصة الجاسوسة لتي لعبت دورا بارزا في هزيمة النازيين

يُسلّط فيلم جديد الضوء أخيرا على شخصية جاسوسة ظلت لسنوات طويلة بعيدة عن الأنظار. ويشكل هذا الفيلم، كما تقول كارين جيمس في السطور التالية، واحدا من بين مجموعة من الأعمال السينمائية التي أُنْتِجَت مؤخرا، وتناولت شخصيات نسائية حقيقية ودورها في مقاومة النظم الاستبدادية أو المؤسسات التي أهدرت حقوق العاملين فيها.

كانت الأمريكية فيرجينيا هول تعمل لحساب الاستخبارات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أنها كانت قد فقدت إحدى ساقيْها في حادث صيد وقع قبل ذلك بسنوات. وخلال فترة الحرب، أصبحت فيرجينيا، التي أطلقت على ساقها الاصطناعية اسم "كَثْبرت"، أول عميلة ميدانية تُرسل إلى فرنسا، قبل احتلالها من جانب النازي وأثناء فترة الاحتلال أيضا. وقد أقامت هناك شبكات تجسس ومنازل آمنة، وكانت العقل المدبر لعملية تهريب أحد السجناء، ولتفجير خط إمدادات للقوات النازية كذلك.

ورغم أن النازيين أطلقوا عليها ساخرين اسم "السيدة العرجاء"، فإنهم كانوا يرهبونها، إلى حد أن كلاوس باربي، وهو من بين أكثر قادتهم وحشية، أمر بإطلاق عملية بحث عاجلة عنها، واصفا إياها بأنها من بين أكثر الجواسيس العاملين لصالح الحلفاء خطورة. لكنها لم تسقط في يد النازيين قط، وهربت من فرنسا كلها، بعد رحلة شاقة سارت فيها لنحو 56 كيلومترا (35 ميلا) عبر جبال البرانس التي تكسوها الثلوج، وهي تئن من الآلام المستمرة التي سببتها لها ساقها الصناعية.

وقد جُسِدّت كل هذه الأحداث - بأسلوب درامي بالطبع - في فيلم "آيه كول تو سباي" (دعوة للتجسس)، وهو عمل سينمائي جديد يندرج ضمن مجموعة من الأفلام التي أُنْتِجَت في الآونة الأخيرة، ونفضت الغبار عن تفاصيل حياة شخصيات نسائية، لم يلقين التقدير الملائم لهن في التاريخ.

وقد أخرجت "دعوة للتجسس" ليديا دين بليتشر، التي شاركت أيضا في إخراج فيلم "ريديم غيرلز" (فتيات الراديوم)، وهو عمل درامي آخر، يستند في قصته إلى أحداث حقيقية، ويدور حول شقيقتين تعيشان في ولاية نيوجيرزي في عشرينيات القرن الماضي، وتقاضيان مصنعا أصيب العاملون فيه بالتسمم، بسبب استخدام مادة الراديوم.

ويشكل هذان الفيلمان جزءا من توجه سينمائي، ينضوي تحت لوائه كذلك، فيلم "هيدِن فيغرز" (شخصيات مخفية)، وهو عمل أُنْتِج عام 2016 وحقق نجاحا كبيرا، وتناول قصة النسوة ذوات البشرة السمراء، اللواتي أسهمن في صياغة ملامح برنامج الفضاء الأمريكي. وكذلك فيلم "آمونايت"، وهو من إنتاج العام الجاري، وتقوم ببطولته كيت وينسلت، مُجسدة دور ماري آنينغ، تلك السيدة التي توصلت إلى اكتشافات رائدة في مجال الحفريات والحياة في عصور ما قبل التاريخ.

وهكذا ففي وقت تثير فيه حركة "أنا أيضا"، التي تُعنى برفض واستنكار أي اعتداءات جنسية على النساء، اهتماما متجددا بحقوق النسوة واستقلاليتهن، تتفاعل قصص السيدات اللواتي ظهرن في هذه الأفلام مع واقعنا في الوقت الحاضر، عبر المعارك المتواصلة التي خُضْنها مع المؤسسات التي كانت قائمة في الحقب التي عشن فيها، ومارست آنذاك التمييز ضد المرأة. لكن للحق، ليس هناك من بين هؤلاء النسوة، من عاشت حياة أكثر إثارة في أحداثها، مما فعلت فيرجينيا هول.

وتجسّد سارة ميغان توماس في الفيلم دور فيرجينيا، كما كتبت سيناريو العمل الذي يتطرق أيضا إلى حياة شخصيتيْن أخرييْن، لعبتا كذلك دورا خلال الحرب العالمية الثانية. أولاهما فيرا أتكينز، السيدة رومانية المولد، التي كانت جزءا مما عُرِفَ بـ "منظمة تنفيذ العمليات الخاصة"، التي كان يُطْلِقَ عليها كذلك اسم "جيش تشرشل السري". وقد تولت فيرا (التي تجسّد شخصيتها الممثلة ستانا كاتيك) تجنيد النساء للعمل كعميلات للاستخبارات، في وقت كان ذلك فيه أمراً غير مألوف بشدة.

أما الشخصية النسائية الثانية، فكانت سيدة إنجليزية - هندية من بين من جندتهن فيرا، وتُدعى نور النساء عنايت خان (أدت دورها الممثلة راديكا آبتي). وقد أُرْسِلَت نور إلى فرنسا لتصبح عاملة لاسلكي، وهي أخطر المهام التي كانت تُسند للعملاء في ذلك الوقت.

ورغم تعدد الشخصيات التي يتناولها الفيلم، فإن قصة حياة فرجينيا تشكل محور أحداثه، بداية بالكفاح الذي خاضته لتصبح عميلة استخباراتية رغم إعاقتها الجسدية وكونها امرأة كذلك. المفارقة أن هذين الأمريْن تحديدا شكلا "الغطاء المثالي" لها، كما قالت شخصية فيرا في العمل، عندما كانت تتحدث عن ضرورة توجه فيرجينيا إلى ليون، تحت ستار العمل كصحفية. وقالت في هذا الصدد: "لن يشك أحد في أن مراسلة أمريكية جميلة تعاني من العرج؛ مذنبة في أي شيء".

على أي حال، لا يُدخل الفيلم تغييرات جوهرية على الطابع الذي تصطبغ به عادة أفلام الجاسوسية، لكنه يستفيد من سمات هذا النوع من الأعمال لخلق أجواء من التشويق والترقب لمواجهات تبدو دانية في كل مرة يقترب النازيون من بطلاته. وبحسب الأحداث، تصل فيرجينيا إلى فرنسا، وتشرع على الفور في ترتيب رحلة ليلية خطيرة، يُعاد بها عميل بريطاني جريح إلى لندن. بعد ذلك، نرى هذه السيدة وهي تستجمع شجاعتها على نحو هائل، وتسير واثقة وهادئة، في وقت يطلق فيه النازيون النار على أحد أعضاء خليتها، على قارعة الطريق.

ويركز "دعوة للتجسس" على السنوات التي حققت خلالها فيرجينيا أبرز إنجازاتها، وذلك سيرا على درب غالبية الأعمال السينمائية، التي تُسلّط الضوء على بعض الشخصيات النسائية البارزة، وما مرت به في حياتها. ففي مقابلتها الأولى مع فيرا، تروي فيرجينيا ببساطة ما مرت به في سنواتها السابقة، مثل محاولاتها للعمل لحساب الاستخبارات الأمريكية، وفشلها في ذلك، بسبب استعانتها بساق صناعية، وهو ما حدا بها للتوجه إلى فرنسا، للعمل سائقة لسيارة إسعاف في زمن الحرب، قبل أن تعمل في مقر السفارة الأمريكية في لندن.

ورغم التزام الفيلم بالحقائق التاريخية الأساسية في حياة بطلاته، وتطورات مسار كل منهن في العمل السري، فإنه لا يفعل ذلك بالصرامة نفسها، عندما يتناول تفاصيل العلاقات التي ربطت بينهن. فمع أن فيرا عَرِفَت فيرجينيا بالفعل، لكنها لم تجندها كما ظهر في العمل. من جهة أخرى، فرغم أن نور النساء عنايت عَمِلَت تحت إمرة فيرا، فإنها لم تشترك مع فيرجينيا في الإقامة في غرفة واحدة خلال فترة تدريبهما على العمل الاستخباراتي، ولم تلتقيا بعد ذلك في فرنسا، كما ظهر على الشاشة.

وبررت الممثلة وكاتبة السيناريو ميغان توماس هذه التغييرات، بأنها أتاحت لها الفرصة "لوضع نور وفيرجينيا في المكان والزمان نفسيهما، مثلما حدث في فيلم `شخصيات مخفية`". وأضافت بالقول: "أنا أعتبر نساء مثل هؤلاء، الشخصيات الخفية لعالم الجاسوسية".

من جهة أخرى، أدى ربط قصص البطلات ببعضها بعضا، إلى جعل الفيلم وثيق الصلة بشكل أكبر، بعالمنا اليوم الذي تسوده العولمة. وتقول ميغان توماس في هذا الشأن إنها كانت مهتمة بفكرة "توحيد نساء من جنسيات وخلفيات مختلفة جهودهن لمقاومة شر مشترك". وعلى مدار الفيلم، نلاحظ كيف كانت الشبهات تحيط بـ "فيرا" في داخل قِسمها نفسه، لأنها يهودية من جهة ومولودة في دولة أجنبية من جهة أخرى. كما رأينا كم كان القلق يساورها، من إمكانية عدم حصولها على الجنسية البريطانية، وأن تتعرض للترحيل كذلك. أما نور المولودة لأب هندي وأم بريطانية، فنعلم من الأحداث، أنها مسلمة وناشطة من أجل السلام، تصر على أن لديها دورا يتعين عليها الاضطلاع به، على صعيد محاربة النازية.

الدراما والخطر

وتمثل فكرة المقاومة العنصر المشترك، الذي يربط بين فيلميْ "دعوة للتجسس" و"فتيات الراديوم"، الذي شاركت بليتشر في إخراجه مع جيني مولر، تلك السيدة التي كانت من بين كُتّاب السيناريو للعمل أيضا. وتبدأ أحداث "فتيات الراديوم" في عام 1925، في أروقة مصنع تعكف فيه العاملات على كتابة أرقام تتوهج في الظلام، على قاعدة الأرقام والرموز الموجودة في الساعات. ونرى هؤلاء العاملات، وهن يلعقن الفراشي المليئة بالطلاء، الذي يحتوي على الراديوم، كي يتسنى لهن رسم الأرقام بشكل أكثر دقة. بجانب ذلك، تبيع الشركة المالكة للمصنع، والتي تحمل اسم "أميركان ريديوم" المياه المُشبّعة بالراديوم إلى زبائنها، باعتبارها "إكسيرا سحريا".

وتتناول الأحداث قصة حقيقية لشقيقتيْن لجأتا للقضاء ضد الشركة التي عملتا لحسابها، بعدما اكتشفتا أن أصحابها كانوا على علم مسبق، بالخطر المميت الذي يشكله الراديوم على صحة من يستخدمونه، لفترة تستمر سنوات.

وعلى غرار ما حدث في "دعوة للتجسس"، تخلق بليتشر عالما سينمائيا ذا طابع مميز، وشخصيات يمكن للمشاهد التعاطف معها.وتُدعى الشقيقتان بطلتا العمل بيسي وجوزي. وتجسد جوي كينغ شخصية بيسي، التي تحلم بأن تصبح من بين نجمات هوليوود، فيما تؤدي آبي كوين دور جوزي، التي تتوق لزيارة مصر للقيام بالتنقيب عن الآثار. وبحسب الأحداث، تبدو جوزي أسرع عاملات المصنع وأفضلهن كذلك. لكنها سرعان ما تسقط فريسة للمرض. ورغم أن طبيب الشركة يقول لها إنها على ما يرام، نجد أنها تسعل دما، وتفقد أسنانها أيضا.

ويشكل إبراز الفيلم لطلاء الأظافر المتوهج المُشبّع بالراديوم الذي تستخدمه بيسي، نموذجا على قدرة العمل على الاستفادة بشكل فعال، من تفاصيل الفترة الزمنية التي تدور أحداثه فيها. اللافت أن نضال بطلتيْ الفيلم من أجل الكشف عن الحقيقة، لم يكن ليُعرض في وقت أكثر ملائمة لذلك من عصرنا الحالي، ما يظهر كيف يمكن أن يكون لحياة الشخصيات التاريخية، صدى في حاضرنا. ورغم أن تصوير "فتيات الراديوم"، انتهى قبل أن يجتاح العالم وباء كورونا، فإن بليتشر ترى أن قصته "تماثل ما يحدث في العالم حاليا، حيث يتم إنكار العلم، ويعتبر البعض شيئا ما آمنا، وهو ليس كذلك، وحيث نرى الناس يحتضرون ويموتون".

ورغم الحيوية التي تُقدم بها شخصيات هؤلاء النسوة على الشاشة، فإن أفلامهن لا تخبرنا سوى بجانب واحد، مما مرت به كل منهن في حياتها. فأحداث "دعوة للتجسس" - مثلا - تنتهي، والحرب العالمية الثانية لا تزال مشتعلة، دون أن يتطرق العمل إلى باقي مراحل حياة فيرجينيا، التي لا تُقاوم من فرط إثارتها. وتشكل تفاصيل مسيرة هذه السيدة بمختلف جوانبها، موضوعا لكتاب سيرة ذاتية ضخم نُشِرَ العام الماضي، واختارت له مؤلفته سونيا بورنيل عنوان "سيدة عديمة الأهمية: القصة المسكوت عنها للجاسوسة الأمريكية التي ساعدت على الانتصار في الحرب العالمية الثانية".

فبعد الحرب، أصبحت فيرجينيا واحدة من أوائل السيدات اللواتي عَمِلن في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي آيه) الوليدة وقتذاك. لكن حتى مسؤولي الوكالة يعترفون الآن، بأنهم لم يستفيدوا من قدرات تلك السيدة على الوجه الأمثل. وقد استشهدت بورنيل في الكتاب بتقرير سري، قال إنه تم تعطيل مسيرة فيرجينيا "لأنها كانت ذات خبرات كبيرة للغاية، يشحب في ظلها نجم زملائها الذكور، ممن شعروا بأنها تشكل تهديدا لهم".

وفي عام 2016، أطلقت (سي آي آيه) اسمها على أحد المباني. ورغم أن ذلك لا يشكل إعادة اعتبار لها بشكل كامل، فإنه خطوة ذات مغزى على أي حال. كما أن من شأن استعراض تفاصيل حياتها على شاشة السينما، جنبا إلى جنب مع قريناتها من النساء اللواتي لم يحظين بالتقدير على نحو كاف من قبل، أن يشكل تقديرا فعالا ونابضا بالحيوية لهن بشكل أكبر، من إطلاق اسمائهن على أي مبنى مهما كانت أهميته.