"أمُّ ظوبان"، أو النار المُقدَّسة

هي قريةٌ سودانيةٌ لا يزيد عدد بيوتها عن أربعة أو خمسة بيوت، تحيط بها بيتُ نار الله المقدسة -عندما زرناها- وكان عدد سكانها أيضًا قليلاً، لكن دورها الديني كان في غاية الأهمية. فقد احتفظت بتدريس القرآن الكريم على مدى خمسة قرون، حيث يأتي مُحِبُّو القرآن إلى هذه القرية كل عام ويتعلمون قراءته وتَفسيره ثم يرجعون إلى قراهم ومدنهم ليقوموا بدورهم في التعليم والتحفيظ.

وما من شكّ أن قرية "أم ظوبان" أو "قرية النار المقدسة" قد قامت بدور عظيم في المحافظة على آيات الله دون تحريف؛ حين زُرتُها أنا ورفاقي العرب، وكنا في تلك الأيام منخرطين في ندوةٍ لتعليم اللغة الإنجليزية، وكان يرأس الندوة "بريطانيّون"، وما زلت أتذكر اسم أحدهم وهو "ركس كنج"، وكيف كان يُظهر التعاطف مع الشعب العربي السوداني الذي كان يعيش في بحبوحةٍ من النعم، فقد كان كيلو الليمون بربع جنيه وكان قنب الموز، أو كما يسمونها "القتنة" لا يحملها إلا عاملٌ إلى سيارة المشتري أو إلى بيتِه، ولم تكن السياسية قد ضربت وجدان هذا الشعب. وقبل أيام من حضورنا إلى الخرطوم كان الرئيس "إبراهيم عبود" قد تخلى عن رئاسة الجمهورية باختياره، وكانت البلاد في أمانٍ واستقرار، ومستوى المعيشة يزداد ارتقاءً، وكان المواطنون يشاهدون الرئيس السابق "إبراهيم عبود" وهو يشتري الخضار واللّحمة كأي مواطن لم يكن له في يوم ما منصب كبير.

ولا أنسى أنني شاهدته في أحد هذه الأسواق وهو يشتري متطلبات اليوم، وكاد زميلي ينكر أنه هو "إبراهيم عبود"، الرئيس السابق للسودان، واقتربتُ منه بخطوات وحيَّيتُه، وسألتهٌ: كيف حال الرئيس الديمقراطي؟ فضحك ضحكته السودانية العالية الصدى، وقال: أنا بخير وفي حالة من الاستقرار، وذلك ما أطلبه لشعب يستطيع أن يُنتج ويكسب الخطوات الأولى على طريق الأساليب الحضارية والتحديث.

إن الشعب العربي في السودان شعبٌ عاملٌ ونشيط، وليس كما يصوره البعض شعبًا كسولاً، وهو شعبٌ يحب الفرح، فعندما تقام الأعراس تبدأ الأصوات تعلو بكلمة واحدة "أبشر.. أبشر"، وهي حالةٌ من البهجة لم نشهدها في أيّ بلد عربي إلا في هذا البلد المحب للفرح والمؤمن بأن المستقبل بحاجة إلى قومٍ يُحبّون وطنَهم ويُحبّون أن يفرحوا معه ويفرحون به. وكما يحب هذا الشعب العربي الفرح فإنه يحب الموسيقى أيضًا، فهو لا يتوقف بجسده عن الحركة، فذاك يغني والآخر يعزف، وتلك كما يقول الباحثون طبيعة الشعوب الحيّة والمناضلة في سبيل الخروج من ربقة التخلف والارتقاء بالإنسان إلى مصافّ الأمم الراقية كما سبق وتكررت الإشارة.

ولا أنسى هنا مستوى التعليم في هذا البلد، فقد كان أرقى منه في مصر وسائر الأقطار العربية، وقد حاولت لشهور عديدة أن أدرس الثانوية العامة في مدرسة "حنتوب" لكنني لم أحرز، وكان الفشل حظي، إذ دعاني أحدهم أن أنتقل إلى مصر حيث كان ينعم الشباب العربي بتسامح علمي، وكنت قد ترددت كثيرًا بالعمل باقتراح المذكور.

*من صفحة الكاتب على الفيسبوك