"طائفية وفساد".. أسباب كثيرة تقف وراء غرق لبنان في الظلام (تقرير)

"الكهرباء انقطعت" من بين الكلمات التي يتعلم نطقها الأطفال في لبنان، الذي يعاني منذ سنوات من انقطاع التيار الكهربائي، وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، أصبح عدم قدرة الدولة على توفير كهرباء أكبر دليل على فشل الحكومات.
 
كل يوم، تنطفئ المصابيح والثلاجات والغسالات لساعات عندما يتوقف الإمداد من شركة كهرباء لبنان المملوكة للدولة، وتتكبد شركة كهرباء لبنان خسائر سنوية تصل إلى ملياري دولار، حوالي ثلث عجز الميزانية اللبنانية.
 
منذ مؤتمر المانحين لعام 2018 في باريس، وقف البنك الدولي والدول الغربية والعربية على أهبة الاستعداد لمساعدة لبنان بمليارات الدولارات في تنظيم موارده المالية وبنيته التحتية، بدءًا بالكهرباء ، بشرط واحد: يجب أن تسن بيروت إصلاحات، بما في ذلك تحديث الشبكة ورفع الأسعار التي لم تتغير منذ التسعينيات.
 
على مدى العامين الماضيين، راقب المانحون بخيبة أمل الانهيار الاقتصاد اللبناني، ولم يتم إجراء الإصلاحات، واختلف السياسيون حول مكان بناء محطة كهرباء جديدة، بسبب الطائفية التي تنخر هذا البلد الصغير الذي يبلغ عدد سكانه 6 ملايين نسمة.
 
على سبيل المثال، يريد التيار الوطني الحر، أكبر حزب مسيحي في الحكومة وحزب رئيس الجمهورية، بناء محطة كهرباء في منطقة مسيحية، بالقرب من قرية تسمى سلعاتا، بينما أثارت أحزاب سياسية أخرى ومانحون دوليون للبنان مخاوف بشأن الفكرة، لأسباب أبرزها أن سلعاتا غير مرتبطة بالشبكة.
 
وتكشف الوثائق التي اطلعت عليها "رويترز" والمقابلات التي أجريت مع أكثر من عشرة مسؤولين على دراية بالأمر كيف رفض التخلي عن فكرة المعمل حتى مع تزايد التساؤلات حول جدوى مشروع سلعاتا، وخصوصا أن المانحين لم يرصدوا له الأموال كجزء من الأموال المخصصة لتحسين قطاع الطاقة.
 
منذ أكتوبر الماضي، خرج آلاف اللبنانيين إلى الشوارع للاحتجاج على الطبقة الحاكمة في البلاد، وكان تطوير شبكة الكهرباء على رأس مطالبهم.
 
تراكم البؤس
 
وقالت سميرة العازار، مديرة صالة الألعاب الرياضية، التي انضمت إلى الاحتجاجات الشهر الماضي خارج مقر شركة الكهرباء الحكومية في بيروت: "لقد أمضينا 10 أيام بدون أي كهرباء على الإطلاق. وهتف المتظاهرون اطفئوا أنوار منازل الحكام وأضيئوا منازل الناس".
 
ويقدم الفشل في إصلاح قطاع الكهرباء لمحة عن كيفية دخول لبنان في أسوأ أزمة له منذ الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا وانتهت عام 1990، ومنذ أواخر عام 2019، انهار النظام المالي تحت وطأة الدين العام، مما أدى إلى تخلف عن سداد الديون السيادية، وتحطيم العملة وزيادة الفقر.
 
وأدى انفجار الأسبوع الماضي إلى تراكم المزيد من البؤس على الناس، ودمر قلب بيروت التجاري وترك حوالي 250 ألف شخص بدون منازل، وأدى انقطاع التيار الكهربائي إلى جعل محاولات التنظيف أكثر صعوبة وخطورة في الشوارع المظلمة المغطاة بالزجاج المكسور والأنقاض، مع وجود خطر دائم يتمثل في سقوط الحطام.
 
وذكر جان كوبيس، المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، أنه بدون إصلاح قطاع الكهرباء من خلال تدابير فورية وملموسة وسليمة تقنيًا واقتصاديًا، لا يمكن للبنان أن يوقف الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
 
من جانبها، رفضت الحكومة الانتقادات بأنها لم تفعل شيئًا لإصلاح الشبكة، بعد أن قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، خلال زيارة قام بها إلى بيروت في يوليو الماضي، إن خطوات معالجة قطاع الكهرباء لم تكن مشجعة، ورد رئيس الوزراء دياب بأن لودريان لا يعرف ما يكفي عن مدى إصلاحات الحكومة.
 
وردا على سؤال حول سبب ضغط التيار الوطني الحر من أجل إنشاء محطة كهرباء في سلعاتا، قال زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل لرويترز: "إصراري على الكهرباء على مدار 24 ساعة ... يجب توزيع توليد الكهرباء، من أجل سلامة الشبكة، اسأل أي خبير. نحن بحاجة إلى عدد من المواقع".
 
أمة ممزقة
 
يحكم لبنان نظام طائفي لتقاسم السلطة منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1943، فيجب أن يكون رئيس الدولة مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الوزراء مسلمًا سنيًا ورئيس البرلمان مسلمًا شيعيًا، ويقول منتقدو النظام إنه حال دون إقامة دولة مركزية فعالة لأن أمراء الحرب السابقين والقادة الطائفيين.
 
فقد أقامت الأحزاب الرئيسية المهيمنة على لبنان، السنة والشيعة والدروز والمسيحيون، جميعها مناطق نفوذ في الدولة استغلتها لصالحها، بينما تلوم بعضها البعض على الفوضى.
 
وتعتبر مشاكل شركة كهرباء لبنان عميقة، فهي تشمل فجوة إنتاج لا تقل عن 1500 ميغاوات، وشبكة نقل مهدرة، وسرقة الطاقة، وعبث بالعدادات، ومشاكل في الفواتير، لم يتم زيادة تعرفة شركة كهرباء لبنان منذ التسعينيات، مما ساهم في خسارتها الضخمة، وقد تعهدت الحكومات المتعاقبة بإصلاح هذا الأمر لكنها لم تنفذ.
 
عندما تنقطع الكهرباء، تضطر الأسر إلى الاعتماد على مزودي خدمات الأحياء الخاصة بتكلفة عالية، ويقدر الاقتصاديون أن اللبنانيين يدفعون حوالي 1.5 مليار دولار أو أكثر سنويًا لمورّدين من القطاع الخاص، الذين يوزعون الطاقة على الأحياء عبر مولدات صغيرة.
 
وقال مصدر دولي مطلع على الأمر إن مجموعة البنك الدولي أشارت إلى مخاوف كبيرة بشأن سلعاتا كموقع لمحطة كهرباء في وقت مبكر من 2018، وأضاف المصدر أن التكاليف، التي تشمل استحواذ الدولة على الأرض واستصلاح البحر، تعني أنه ليس استثمارًا مجديًا.
 
عندما تولى حسان دياب، منصبه في يناير من هذا العام، تعهد بالضغط لتحقيق الإصلاحات التي طال انتظارها، بما في ذلك تدابير للقضاء على الفساد وتحسين تحصيل الضرائب، وحدد أول 100 يوم لتنفيذ خطة طوارئ لقطاع الكهرباء.
 
وأعلنت الحكومة بدء عملية شراء لبناء محطة كهرباء في الزهراني، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية في الجنوب والتي يُنظر إليها على أنها موقع مناسب لأنها تضم بالفعل محطة للطاقة، مما يساعد على انخفاض تكاليف المشروع.
 
وبالفعل، كلف البنك الدولي شركة الكهرباء الفرنسية بوضع خطة للخيارات الأقل تكلفة لتوليد الطاقة في العقد المقبل، وتوضح مسودة دراسة للشركة اطلعت عليها رويترز، تفاصيل خارطة طريق لتلبية احتياجات لبنان، والتي أهمها إلغاء فكرة إنشاء محطة في سلعاتا، بالإضافة إلى إنشاء محطة في الزهراني ودير عمار ذو الأغلبية السنية.
 
وقال البنك الدولي لرويترز في رد مكتوب إنه أوصى الحكومة اللبنانية "بضرورة أن تخضع أي محطة كهرباء لتحليل دقيق لتأثيراتها البيئية والاجتماعية" ويجب اختيارها على أساس أقل تكلفة، وأضاف أنه من غير الواضح ما إذا كانت التوصية الأولى قد نُفذت بالكامل أم لا.
 
خلاف طائفي
 
في 14 مايو، بدا أخيرًا أن الحكومة تمضي قدمًا في خطة لزيادة توليد الكهرباء، وأوضح قرار حكومي صراحة مكان إقامة أول محطة جديدة لتوليد الكهرباء، وقال إنه ينبغي بناؤها في الزهراني في الجنوب، وذكرت مصادر سياسية أن غالبية أعضاء مجلس الوزراء أيدوا ذلك، وكانوا يريدون المضي في العملية.
 
لكن القرار سرعان ما واجه عقبة سياسية أخرى، وهو رفض التيار الوطني الحر، الذي اعتبر أن الخطة هي محاولة لإهمال سلعاتا، وطالب الرئيس عون بمراجعة القرار، مشيرا إلى أن خطة الحكومة الأصلية لإصلاح القطاع تضمنت ثلاث محطات كهرباء إحداها في سلعاتا.
 
في جلسة لمجلس الوزراء ترأسها عون في القصر الرئاسي بعد أسبوعين، أكدت الحكومة التزامها بخطة 2019 الأصلية، في نفس الوقت تقريبًا في مايو، ذكّر وزير الطاقة (تابع للتيار الوطني الحر) أن سلعاتا لا تزال تمثل أولوية.
 
محبطون
 
وردا على سؤال من رويترز عما إذا كان حزبه يروج لمحطة في سلعاتا لأسباب طائفية، أجاب زعيم التيار الوطني الحر باسيل: "عندما تريد أن تتحدث في لبنان عن التنمية المتوازنة والتوزيع (الجغرافي) للمشاريع، فهذا لا يجب أن ينطبق على فئة ولا ينطبق على أخرى".
 
أما ندى بستاني، وزيرة الطاقة السابقة، وعضو التيار الوطني الحر، فقد أكدت أن الحزب ليس لديه مشكلة في بناء محطة في الزهراني وكذلك في سلعاتا، مضيفة "لكننا نقول نلتزم بالمحطتين لأنك بحاجة لهما إذا كان الهدف النهائي هو الكهرباء لمدة 24 ساعة."
 
وفي الوقت الذي يقر المانحون بحق لبنان في اختيار مكان وضع قدرة توليد جديدة، هم محبطون بسبب المأزق، وقال أحد المصادر الدولية المقربة من القضية: "تمويل محطتين للطاقة سيكون صعبًا ، ويريدون منا تمويل محطة ثالثة دون أي تفسير موثوق ... الجميع قال لهم لا لسلعاتا".
 
بينما قال كميل أبو سليمان، وزير العمل السابق إن "عناد التيار الوطني الحر يضيع وقتا ثمينا، وإنه ليست هناك حاجة لاستبعاد سلعاتا تمامًا، ولكن لماذا تعطل العملية برمتها؟ لماذا لا تبدأ بمحطة كهرباء واحدة في الزهراني وهي أسهل، وإذا نجحت، يتم إنشاء الأخرى".