مخابرات لندن "أم" الإخوان

مساء الثلاثاء 12 نوفمبر 2019 ظهر رامي عبدالرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، على فضائية العربية الحدث ليؤكد أن مؤسس الخوذ البيضاء، “المتوفى” قبلها بـ24 ساعة في إسطنبول، جيمس لو ميسورييه، “ضابط مخابرات بريطاني”. وأشاد بدوره الإنساني، نافيا توظيفه للخوذ خارج أغراضها.
 
وكانت اتهامات طالت الخوذ البيضاء، بفبركة مشاهد لضحايا سوريين مع قناة الجزيرة القطرية، وقالت إن الخوذ البيضاء الوجه الناعم للإخوان، وهي صنيعة مخابرات غربية “توظف” منذ 90 عاما حسن البنا.. ومن بعده شجرته.
 
يورد الباحث حلمي النمنم، وزير الثقافة المصري السابق، في كتابه “حسن البنا الذي لا يعرفه أحد”، شهادة رؤية عين للمفكر المصري الراحل محمد حسين هيكل (1888 – 1956) بأن أول لقاء للبنا مع مسؤول غربي، كان السفير الأميركي بجدة هيرمسان آيلتس، عامي 1927 - 1928، الذي أكد لهيكل أنه التقى بالبنا في الحجاز مرات عديدة. لم تكن واشنطن وقتها “المركزية الغربية” فسُلّم البنا وملفه إلى الجهاز المختص، وهو الاستخبارات العسكرية البريطانية، (أم.أي6).
 
ومن ادعاءات الجماعة نقرأ عن مؤسسها “قال مندوب المخابرات البريطانية للأستاذ: تعبيرا عن تقديرنا للإخوان، وبعد أن فهمنا أهدافكم، نود أن نقدم بعض المال لتحقيق أهدافها. قال الأستاذ: كان الكلام ينزل على قلبي كالخناجر. ثم رفض بحسم”. هذا ما يُلقن لـ”البَنَّاويَّة”، لكن وثائق لندن تقول العكس، وتؤكد تمويل بريطانيا للإخوان، وأن الجماعة تواطأت معها لاغتيال جمال عبدالناصر.
 
أكد هذا الرد الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه “التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين”، وهو حصيلة دراسته أربع سنوات لعشرات الآلاف من الوثائق الإنكليزية التي رُفعت عنها السرية. الوثائق التي درسها كيرتس توقفت عند العام 1970، وتابع هو تطور العلاقة بين بريطانيا والجماعات الأصولية، وعلى رأسها الإخوان.
 
إلى جانب كتاب كيرتس، رصدت مؤلفات غربية عديدة التداخل العضوي بين جماعات الإسلام السياسي وبين المخابرات الغربية، خاصة اللندنية منها. لكن ما يميز كتاب “التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين”، هو “توثيقه” لعمالة حسن البنا، ثم حسن الهضيبي الأول، في رواية كاملة.
 
بداية عام 1951، انضم الإخوان إلى دعوات الجهاد ضد البريطانيين. كانت “مسرحية” وفق تقرير للسفارة البريطانية من القاهرة أورده كيرتس “الإخوان يمتلكون منظمة إرهابية منذ مدة طويلة، لم تفلح جهود الأمن في القضاء عليها. لكنهم لا ينوون مهاجمة قوات جلالة الملكة”.
 
ويرجع تقرير آخر هجمات إخوانية ضد البريطانيين إلى “تصرفات فردية وعدم انضباط”، مؤكدا أنها “تتعارض مع سياسات قادة التنظيم”. بسبب التصرفات الفردية اضطر المرشد الثاني، الهضيبي، إلى حسم خندقه مع جريدة “الجمهور المصري”، نهاية العام، رافضا المقاومة، ثم قال بسخرية “هل العنف سيخرج الإنكليز!” وقال لشباب جماعته “اذهبوا واعتكفوا على تلاوة القرآن”.
 
بعد ثورة يوليو، اعتمدت كل خطط بريطانيا للإطاحة بعبدالناصر على الإخوان، ودائما وفق الوثائق: “لخلق اضطرابات تمهد لتغيير النظام الجديد”. يكشف الكتاب اتصالات مع قياداتهم.. “ضد النظام الثوري أثناء مفاوضات الجلاء”، ليدعم كتبا سبقته، أحدها للأميركي روبرت دريفوس، رصد فيه حديث وثائق بريطانية، مؤرخة بـ7 فبراير 1953، عن اجتماعات متكررة ضمت الهضيبي الأول وصالح أبورقيق ومنير الدولة مع تريفور إيفانز مستشار السفارة، وعرضهم عليه في منزل القيادي في الجماعة، محمد سالم، بقاء الاحتلال في القناة، مقابل دعم انقلابهم ضد الثورة، والاشتراك في حلف عسكري ضد الشيوعية.. لأنه “إذا بحثت مصر عن صديق فلن تجد سوى بريطانيا”.
 
مع تحريض على اغتيال عبدالناصر، لأن عرضهم “لن يرى النور ما دام حيا”.. فهو “يعادي الأحلاف ويصفها بالاستعمارية”، بالتزامن مع إغراء علني من الهضيبي في يوليو 1953 عبر وكالة أسوشييتد برس: “الغرب سيربح إذا حكمنا، سيفهم مبادئنا المعادية للشيوعية وسيقتنع بمزايا الإخوان”، ليسجل أنتوني إيدن، وزير خارجية بريطانيا وقتها، في مذكراته “الهضيبي كان حريصاً على علاقات ممتازة معنا، بعكس ناصر”.
 
عام 1956 ومع العدوان الثلاثي على مصر، نشطت الاتصالات بالبَنَّاويَّة ضمن مخطط الإطاحة بالزعيم المصري أو اغتياله. وحسب كيرتس، كانوا الأكثر احتمالية لتشكيل الحكومة الجديدة بعد إسقاط نظامه. قال إيدن لمساعديه، وفقا للمؤرخ إيفلين شاك برا في كتابه “أصل أزمة السويس” الصادر عام 1986، “ما هذا الهراء عن عزل ناصر أو تحييده؟ أريد تدميره، قتله”. وفي مارس 1957، يكتب إيفانز، تعليقا على تجدد مفاوضاته مع الإخوان، “اختفاء ناصر.. هدفنا الرئيسي”.
 
بعد عقود، يؤكد كيرتس “لندن لا تزال تستخدم القوى الأصولية، وتطور علاقاتها مع إخوان مصر وسوريا ودول أخرى”.
 
جزء يسير من تطوير علاقاتها مع بَنَّاويَّة مصر سرّبه ديريك باسكويل، موظف الخارجية البريطانية، لصحيفة الأوبزرفر، ليدفع 18 شهرا اعتقالا، ويفُصل من عمله في أغسطس 2009.
 
خارج الكتب وعلى الأرض، تحتضن لندن دولة موازية للبَنَّاويَّة، منذ اتخاذ الإخوان من العاصمة البريطانية مقرا لنشاطهم الدولي عقب حظر مصر الستينات للجماعة. هكذا. وقد كتب الرئيس الأسبق لوحدة الاتصال بالمسلمين في شرطة لندن، روبرت لامبرت، بمجلة نيو استيتسمان، في عدد 5 ديسمبر 2011، كاشفا، بعفوية، عن دور قديم متجدد، “تفخر بريطانيا بتوفير ملاذ آمن للإخوان في العقود الثلاثة الماضية. جاؤونا هاربين، الآن بعضهم يعود إلى بلده للمساعدة في بناء ديمقراطيات جديدة”.
 
في الملاذ الآمن، استقر كمال الهلباوي وإبراهيم منير، المتحدثان، على التوالي، باسم الجماعة. وأنشأ الثاني “مركز المعلومات العالمية” للتواصل مع الإعلام حول العالم. وأقام أيضا عصام الحداد، حيث رافقه خيرت الشاطر لسنوات في الثمانينات، ليعود الأول إلى القاهرة ويشارك في خطف ثورة 25 يناير، ثم يتم تعيينه مستشارا للمعزول محمد مرسي.
 
الملاذ الآمن.. كان قبلة يوسف القرضاوي، “أمير الإخوان” كما توصيف الباحث الفرنسي مايكل برازان، خاصة بين عامي 1995 و1997، لتأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في المملكة المتحدة. والذي برر مقبول علي، مستشار الشؤون الإسلامية في الخارجية البريطانية، عام 2004، تكرار زياراته إلى لندن بقوله إنها “مفيدة لأهدافنا الخارجية”.
 
في الملاذ الآمن.. 39 مؤسسة بَنَّاويَّة، منها: اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، والمنتدى الإسلامي، والثقة الأوروبية، ورابطة مسلمي بريطانيا، والهيئة الاستشارية الوطنية للأئمة والمساجد، والمجلس الإسلامي، وقرطبة للحوار العربى الأوروبي.. أقوى لوبياتهم. واتحاد المنظمات الطلابية الإسلامية، ومنتدى الشباب المسلم جامعا 42 منظمة من 26 دولة، والمنظمة الإسلامية للإغاثة التي تدير فروعا في 28 بلدا. وموقع ميدل إيست مونيتور، وقناة الحوار، وموقع إخوان أون لاين الإنكليزي.
 
مع الحظر الثاني، في 30 يونيو 2013، وسع الإخوان أنشطتهم في ملاذهم الآمن، وأنشأوا مقرا جديدا في منطقة كريكل وود شمال لندن، ليكون مركز عمليات جديدا. وتصف مجلة فورين بوليسي الأميركية، في تقرير عن افتتاحه، لندن بأنها “المكان الطبيعي للإخوان خارج مصر”، مشيرة إلى أنه “أكثر أذرع الجماعة نشاطا وتنسيقا مع مكاتبها حول العالم”.
 
فور إعلان دونالد ترامب، في يناير 2017، نيته اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، توجهت تريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، إلى واشنطن في زيارة واضحة الهدف.. وهو، كما يقولون في مصر، تصرف بديهي من “أم الصبي”.
 
*العرب