رحلة لاستكشاف عالم سري أسفل كاتدرائية شهيرة

تسارعت دقات قلبي حين وصلنا إلى عمق سبعة أمتار أسفل كاتدرائية متروبوليتان في مدينة مكسيكو سيتي، التي تعد واحدة من أكبر وأعرق الكاتدرائيات في أمريكا اللاتينية.

فقد سمعت الكثير من الشائعات عن المعابد المدفونة أسفل هذه الكاتدرائية، التي لم يكن يسمح لأحد برؤيتها منذ اكتشافها في السبعينيات من القرن الماضي.

لكنني الآن، انضممت إلى مجموعة من الزوار في جولة لاستكشاف الأسرار القديمة التي تقبع تحت أعماق الكنيسة.

ومنذ إغارة القائد الإسباني هيرنان كورتيز على عاصمة إمبراطورية الآزتيك، تينوتشتيتلان، ظلت أطلالها متوراية عن الأنظار أسفل مكسيكو سيتي لنحو 500 عام. وشرع الإسبان في تشييد كاتدرائية متروبوليتان في عام 1573 فوق معابد الآزتيك المقدسة كرمز لانتصارهم.

وفي عام 1978، اكتشف عمال كهرباء بمحض الصدفة عمودا صخريا ضخما بالقرب من الكاتدرائية، وانطلقت بعدها عمليات حفر استمرت لخمس سنوات، أسفرت عن اكتشاف معبد الآزتيك المبهر الذي يسمى "تمبلو مايور" أو المعبد العظيم.

برج للجماجم طوله 35 مترا حيث كان الآزتيك يعرضون جماجم قرابينهم خارج المعبد العظيم بالعاصمة مكسيكو سيتي
برج للجماجم طوله 35 مترا حيث كان الآزتيك يعرضون جماجم قرابينهم خارج المعبد العظيم بالعاصمة مكسيكو سيتي

وحفز هذا الاكتشاف وبعض المخططات الإسبانية القديمة لعاصمة الآزتيك، علماء الآثار على البحث عن مبان آخرى تعود إلى حقبة ما قبل الغزو الإسباني بالقرب من الكاتدرائية. وانطلقت سلسلة من عمليات الحفر التي أدت إلى اكتشاف أدلة جديدة عن أنماط حياة الآزتيك.

واليوم، يمارس الكثيرون من سكان مكسيكو سيتي حياتهم ويغدون ويروحون فوق أطلال مدينة الآزتيك التي لم تكتشف بعد.

وحبست أنفاسي عند نزولي السلم الحلزوني، ولم أطلق زفيرا إلا بعدما أبصرت معبد توناتيوه، إله الشمس، الذي كان يعد كبير الآلهة في الحقبة التي أشار إليها الآزتيك باسم "حقبة الشمس الخامسة"، التي تنبؤوا أن تنتهي بزلزال يدمر العالم. ورأيت بالقرب منه صخرة ضخمة نقشت عليها رموز تقول ترجمتها: "مقر الأشياء المقدسة أو الثمينة".

ومنذ عام 1991، يجري برنامج علم الآثار بالمناطق الحضرية، بقيادة عالم الآثار راؤول باريرا رودريغيز، أعمال حفر على مساحة 500 متر مربع في قلب العاصمة مكسيكو سيتي لإعادة اكتشاف مدينة تينوتشتيتلان القديمة. ولهذا، لا يجوز تنفيذ أي أعمال إصلاح أنابيب مياه أو تركيب كابلات كهربائية تحت الأرض في المنطقة، إلا بعد إخطار المعهد الوطني للأنثروبولجيا والتاريخ حتى ينتدب علماء آثار للإشراف على عمليات الحفر والتركيب.

كاتدرائية متروبوليتان
كاتدرائية متروبوليتان

وقد اكتشف في خضم ترميم أحد المباني خلف الكاتدرائية في عام 2015 برج للجماجم طوله 35 مترا، كان يتضمن في الماضي عواميد خشبية، حيث كان الآزتيك يعرضون جماجم قرابينهم البشرية. وعثر علماء الآثار على نحو 700 جمجمة على مدى عامين، علاوة على قاعدة تتضمن ثقوبا كانت توضع فيها الأوتاد الخشبية المملؤة بالجماجم.

واكتشف علماء الآثار في عام 2017 أثناء عملية تجديد فندق في قلب العاصمة التاريخي، ساحة قديمة لألعاب الكرة، حيث كان اللاعبون من الآزتيك يقذفون الكرات المطاطية الثقيلة من طرف لآخر باستخدام الآرداف فقط.

وعثروا أيضا العام الحالي على عدد من القرابين، منها هيكل عظمي لطفل كان يرتدي زي إله الحرب عند الآزتيك، ويتزيلوبوتشتلي، على أعتاب المعبد العظيم. واستعيدت عظام فهد وطبقات من الأصداف والشعب المرجانية.

ويأمل باريرا رودريغيز أن يتوصل إلى اتفاق مع مالكي المباني فوق ساحة ألعاب الكرة وبرج الجماجم لعرض هذه الآثار في متاحف تحت الأرض للجمهور. ومنذ عام 2018، تباع تذاكر للجمهور لزيارة أطلال المعابد القابعة أسفل الكاتدرائية بمرافقة مرشدين من الكاتدرائية، وتدر هذه الجولات أرباحا للكنيسة وتتيح الفرصة للزوار لإلقاء نظرة على العالم السري المدفون أسفل أحد أشهر معالم المدينة السياحية.

وتنتشر آثار حضارات أمريكا الوسطى في بعض المناطق غير المتوقعة في آنحاء مكسيكو سيتي، فعند التنقل ما بين خطوط مترو الأنفاق في محطة بينا سواريز في قلب العاصمة، على سبيل المثال، ستلمح هرم إله الرياح عند الآزتيك، إهيكاتل. وعند الخروج من ساحة الانتظار تحت أحد مراكز التسوق على مقربة من مركز العاصمة التاريخي، قد ترى هرما آخر لإله الرياح.

واستعان علماء الآثار بوثائق الغزاة الإسبانيين والسجلات التاريخية التي دوّنها الرهبان الفرانسيسكان والمؤرخون الآزتيك للاستدلال على مواقع معابد الآزتيك وآثارهم. ويقول باريرا إن سجلات الراهب برنادينو دي ساهاغون في القرن السادس عشر ساعدتهم في العثور على نحو 78 معبدا في تنوتشتيتلان.

إلا أن الحفر في العاصمة المكسيكية محفوف بالمشاكل. إذ شيد الآزتيك عاصمتهم على جزيرة صغيرة وسط إحدى البحيرات. ويقول باريرا إن المياه في بعض المناطق، توجد على عمق خمسة أمتار من سطح الأرض. ولهذا تهبط مساحات كبيرة من أراضي وسط المدينة بمعدل 5 إلى 7 سنتيمترات سنويا، وفي بعض المناطق تهبط الأراضي بما يصل إلى 40 سنتيمترا سنويا.

مدينة تينوتشتيتلان القديمة
مدينة تينوتشتيتلان القديمة

وإذا تجولت في قلب العاصمة التاريخي ستجد صفوفا من العمارات مائلة بزوايا مختلفة.

ويقول إدواردو ماتوس موكتيزوما، عالم الآثار الذي أشرف على عمليات حفر المعبد العظيم، إن جدران الكاتدرائية قد تصدعت منذ عدة سنوات وهبطت أجزاء منها نظرا لوجود آثار تعود لحقبة ما قبل الغزو الإسباني تحتها. لكن هبوط الأراضي يساعد علماء الآثار في العثور على آثار حضارات أمريكا الوسطى.

ويقول باريتا إن علماء الآثار يتتبعون الشقوق والتصدعات في جدران المباني للعثور على أهرامات.

ويستخدم علماء الآثار أيضا التقنيات الحديثة، مثل جهاز التيودوليت لقياس الزوايا وأجهزة المسح ثلاثية الأبعاد وأجهزة الرادار، للكشف عن الآثار التي تقبع أسفل شوارع قلب العاصمة وميادينها. لكن هذه الأجهزة لا تغني عن الحفر، على حد قول باريرا، للتأكد من أن هذه الأطلال تعود بالفعل إلى حقبة ما قبل الغزو الإسباني.

لا يزال بعض المكسيكيين يحتفلون بتأسيس عاصمة الآزتيك القديمة تينوتشتيتلان بعد مرور نحو 700 عام على تأسيسها
لا يزال بعض المكسيكيين يحتفلون بتأسيس عاصمة الآزتيك القديمة تينوتشتيتلان بعد مرور نحو 700 عام على تأسيسها

ويقول ماتوس إن أعمال الحفر أماطت اللثام عن أوجه تشابه عديدة بين مدينة مكسيكو سيتي الحديثة ومدينة تينوتشتيتلان القديمة.

إذ شيدت الكاتدرائية الإسبانية فوق معبد الآزتيك الذي شيد منذ نحو 700 عام، بينما ينتصب القصر الوطني، مقر الرئيس الحالي، بالعاصمة المكسيكية فوق أنقاض قصر إمبراطور الآزتيك موكتيزوما الثاني الذي قتل في بداية الغزو الإسباني. ويقول باريرا إن هذا المكان ظل مقرا للسلطة والنفوذ منذ عهد الإمبراطور موكتيزوما الثاني إلى الآن.

إن التشابه بين هذه المدينة التي تأسست عام 1325 وبين مدينة مكسيكو سيتي مترامية الأطراف والفوضوية قد يستعصي على التصديق، لكن الأمر المؤكد أن حضارة الآزتيك لا تزال تنبض بالحياة تحت مدينة مكسيكو سيتي العصرية.