الإبداع الأدبي وتجاوز الواقع

في رواية "بريد الليل" للروائية العربية هدى بركات يتجلى الواقع بمرارته من خلال الرسائل الليلية التي لا تصل إلى أصحابها بل إلى قرائها. ويلاحظ أن الكاتبة الكبيرة لم تترك حالة من حالات هذا الواقع الشنيع إلاَّ وسجلته، وأضافت من عندها "رتوش" تزيده بشاعة على بشاعته، وهذا ما قد يدفع بعض النقاد إلى نقد هذا الأسلوب من التناول المبالغ فيه، فالواقع –كما هو- ليس بحاجة إلى المزيد، لكن ربما هو الفن الإبداعي يرفض إلاَّ أن تكون له إضافته المتخيلة.

إن واقعنا العربي، بكل تمثلاته السيئة، بحاجة إلى من يخفف من تلك الحالات لا إلى من يضيف إليها، حتى يبعث شيئاً من الأمل بالمستقبل واحتمالاته. وما يتأسف له أن الأعمال الأدبية التي تتناول واقعنا العربي الراهن، وليس رواية "بريد الليل" إلاَّ نموذجاً لها، لا تفتح باباً للأمل أو متخيلاً للأفضل، للالقريب فالمبدعون لا يذهبون بعيداً في هجاء الواقع وإدانته ولا يكادون يفتحون نافذة صغيرة لاحتمالات التغيير والتجاوز.

والقارئ العادي، فضلاً عن القارئ المتمرس، ينتظر من الكاتب أن يقدم في عمله الأدبي بعض الصور المشرقة على أمل أن تتحقق وأن تجد طريقها إلى حياة الناس الذين ضاقوا بمواجهة الواقع في صورته الداكنة. وهناك قلة من المبدعين يحرصون على أن تتمثل كتاباتهم هذا المعنى ولا أريد أن أتوسع في الموضوع وأقترب من إبداع الروائي الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل، وكيف كانت أعماله الروائية مثالاً في تقديم صورة المجتمع في تحولاته الأفضل، على خلاف بعض الكُتاب المتشائمين أو الذين يوصفون بالسوداويين الذين تقدم أعمالهم المنقبضة حالة جامدة لمجتمعات راكدة بائسة لا حول لها ولا طول في التغيير أو التحول.

إن رواية "بريد الليل" التي أثارت هذه الخواطر هي –كما سبقت الإشارة -واحد من الأعمال الروائية التي رصدت واقع المجتمع العربي من منظور تشاؤمي سوداوي.

وربما اعترض البعض بأن الواقع يعكس نفسه في الأعمال الأدبية ولا يستطيع الكاتب إلاَّ أن يسجل ما يمليه الواقع نفسه، وهذه نقطة خاطئة عن المبدع الجاد القادر على تحدي الانعكاسات السيئة والتخلص من المؤثرات الحادة وهو ينظر إلى الواقع من خلال راهنيته أولاً، ومن خلال ما يوحي به من تحول وتغير شاملين. وهذا ما تشي به أعمال المبدعين الكبار وأعمالهم التي أخذت مكانها في حياة الناس وفي تاريخ الإبداع. وما تأكده تجربتي الخاصة أن أهم الأعمال الروائية التي قرأتها هي تلك التي زودتني بشيء من الأمل والشعور بتجاوز حالات السقوط التي مرت بها المجتمعات العربية، وهدف أصحابها من خلال كتاباتهم إلى إظهار هذا الهدف، والحرص على أن يكون العمل الأدبي دافعاً نحو التجاوز والخلاص من الواقع الراكد الجامد.

*من صفحة الكاتب على الفيس بوك