أن تكون فاسدا في العراق.. لن يردعك أحد!

حفلة الفساد العراقية مستمرة. ليس مقدرا لها أن تتوقف الآن، فالقضية لم تعد تتعلق بمجموعة فاسدين أو زعماء قوى سياسية استباحوا أموال الدولة في لحظة فوضى وارتباك وغياب للرقابة وتقديرات وسياقات أميركية خاطئة رافقت مرحلة الاحتلال وأعقبتها، وساهمت في خلق مافيا تكافلية تجمع الثالوث الأكثر خطورة (السياسة، والاقتصاد، والدين)، بل إن مشروع الفساد بات من حيث المنطلقات مشروع الدولة العراقية الحالية.
 
أخيرا، كانت ضجة كبرى قد ثارت في بغداد حول اعتقال أحد مديري صالات "الروليت" التي انتشرت بقرار رسمي من وزارة الداخلية العراقية قبل نحو عام. جرى الحديث عن أن المعتقل يدير مافيا للمخدرات ويستعين بمجموعات مسلحة تدعي الارتباط بالحشد الشعبي وكبار الضباط والمسؤولين لحمايته.
 
قبل ذلك راقب العراقيون عددا من أبرز تجار المخدرات (المفترضين) يهربون من أحد سجون بغداد في عملية كاريكاتورية لا ترقى لاستعراضات الهروب لـ"إل تشابو" في بيئة الفساد التي كان ينمو فيها.
 
في إطار الصورة نفسه، يصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي قرارا بسحب فصيل للحشد الشعبي في الموصل، ويستخدم قراره غير المطبق بإخضاع فصائل الحشد إلى سلطة الدولة، الذي مر على نهاية مهلته أسبوعان، ليتمرد هذا الفصيل على الدولة بشكل سافر ومهين فيجيبه عبد المهدي بترضية تسمح له بالبقاء في مواقعه رغم الاتهامات العريضة التي سيقت ضده واستدعت قرار سحبه!
 
هذه ليست أحداثا متفرقة كما تبدو؛ فرئيس الحكومة يقرر تعيين عشرات من المفتشين العموميين من خلفيات سياسية رغم وجود قرار من البرلمان بحل دائرة المفتشين بأسرها. والسيد مقتدى الصدر يرسل إلى كتلته السياسية، المشاركة بفعالية بكل صفقات تشكيل الحكومة الحالية بالطريقة الغامضة التي شكلت من خلالها، رسائل مشفرة حول قرب اتخاذه مواقف صادمة ضد "الفاسدين". والمرجع السيستاني ينشر في خطبة الجمعة سلسلة من المظالم الشعبية يقف "الفساد" في مقدمتها. وقبل كل ذلك تتسرب رائحة الطبخة غير المكتملة لتوزيع مناصب مؤسسات الدولة الإدارية حسب الأحزاب والولاءات.
 
وأي فساد يمكن أن نتحدث عنه، أكثر إيلاما من صعود أفراد وجماعات فوق سلطة الدولة؟ ومن تغانم أحزاب سياسية لمؤسساتها وعقودها وصفقاتها؟ ومن مشاركة الجميع في طمس معالمها والسطوة على السلاح وعلى إدارة المال العام وعلى حقها الحصري في العقاب لصالح مجموعات مسلحة وعشائر وأفراد طامحين؟
 
وأي فساد يمكن أن يكون من المجدي البحث عن محاربته في ظل تغول مافيات التجهيل الشعبي، التي تستعرض التزامها الديني على الفقراء والشباب المنتهكة حقوقهم والمسلوبة إرادتهم، وهي تمتص كل يوم ما أتيح لها من موارد موازنة عرجاء معتمدة بشكل مخجل على إيرادات النفط؟
 
عندما نقول إن الفساد هو جزء من مشروع الدولة العراقية، فلأن 25 عاما في إسهام الدولة، في ظل الحصار الاقتصادي قبل 2003، والتكالب الحزبي بعد هذا التاريخ، بإفساد ثقافة المجتمع وسلوكه ومعاييره الأخلاقية، أنتجت واقعا مشوها يهتف فيه الجميع ضد الفساد ويتقدم صفوف الهاتفين الفاسدون أنفسهم!
 
لا يمكن البحث عن حلول لشبكات فاسدة تحكم السياسة وقراراتها وتحكم القانون وتطبقه وتفصله على مقاساتها، ولا يمكن الحلم بتجاوز هذه الأزمة المركبة بانتظار اكتفاء هذه الشبكة المرعبة من المال والأراضي والعقارات وتهريب النفط وبيع المواقف للأجنبي، والتواطؤ الجماعي على تزوير إرادة الناخب.
 
الفساد.. جزء من مشروع الدولة العراقية
 
وربما يكون الحل بعيدا جدا عن المثالية، يقترب من تجارب دول أميركا اللاتينية وبعض دول الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي السابق، التي أقرت بالفساد واستحالة القضاء عليه، فقررت العمل على إدارته.
 
صادمة هي الوقائع، تماما كصدمة المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق الذي وجد أمامه طابورا من المتورطين مجرد لفظ أسماءهم يمكن أن يعني إسقاط المجلس والحكومة ومن فيها في ساعتين!
 
ولأنها وقائع صادمة، فالشعارات العريضة وحفلات الندب المستمرة، وصراخ الفقراء في الشاشات وتجهيل الناس بحقيقة وضعهم، قد لا تكون سوى واحدة من بدع شركة "كامبريدج أناليتيكا" التي أدارت الانتخابات وعمليات التأثير في المزاج العام لصالح زبائنها في 70 بلدا، وكان الزبائن العراقيون المجهولون من بينهم، وربما في مقدمتهم!