ننشر جانباً من تقرير "مجموعة حل الأزمات الدولية" عن مصير الاتفاق النووي

يعتمد مصير "خطة العمل الشاملة المشتركة"، أو الاتفاق النووي الإيراني، على سباق ثلاثي ضد الزمن: الولايات المتحدة تأمل في فرض أقصى الضغوط الممكنة على إيران في أسرع وقت ممكن على أمل أن ينهار اقتصادها، أما طهران فتريد أن تخفق إدارة الرئيس دونالد ترمب أو يتشتت اهتمامها بمستجدات أخرى أو خسارتها في انتخابات عام 2020... بالنسبة لأوروبا فإنها تسعى بدأب لزيادة الوقت في ساعة طهران مع العمل على تجنب تعميق الهوة بين ضفتي الأطلسي.
 
وبحسب تقرير موسع أصدرته «مجموعة حل الأزمات الدولية»، فقد كانت إدارة ترمب واضحة تجاه اثنين من جوانب سياستها في الشرق الأوسط: أن إيران مصدر مشكلات المنطقة، وأن العقوبات الأداة الأساسية للتصدي لها. ومع أنه لا يتفق جميع المسؤولين الأميركيين حول الهدف الأكبر، فإنهم يتفقون جميعاً حول السبل الواجب اتباعها، وأن وجود إيران ترزح تحت وطأة ضغوط اقتصادية أفضل من إيران دون هذه الضغوط. وتسعى الإدارة الأميركية لتعبئة حلفائها ضد اختبارات الصواريخ الباليستية الإيرانية ومجموعة واسعة النطاق من المخالفات الإيرانية المزعومة، والتي تتراوح بين عدم الالتزام باتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، وأسلوب التعامل مع المتظاهرين، والفساد المستوطن في البلاد من أعلى لأسفل.
 
ويشعر بعض المسؤولين بالرضا إزاء فكرة أن الخطة قد تحرم إيران من بعض الموارد التي تستغلها في استعراض قوتها على المستوى الإقليمي. ويعتقد عدد من مسؤولي الإدارة، بينهم ترمب نفسه، بأنهم يعاينون بالفعل أدلة ملموسة على هذا الصعيد، مثل انحسار عمليات النشر الإيراني والدعم المالي للجماعات المسلحة.
 
أما الأعضاء الأكثر تشددا في الإدارة، فيتمادون لخطوة أبعد في اعتقادهم بأن المحن الاقتصادية من الممكن أن تؤجج قلاقل داخلية؛ أو على الأقل ستدفع بالقيادة الإيرانية لتوجيه اهتمام أكبر بكثير للقضايا الداخلية عن الأخرى الخارجية. وفي إطار السيناريو الأمثل بالنسبة لهذا الفريق (رغم التأكيدات المتكررة على أن تغيير النظام ليس هدف السياسة الأميركية)، فإن العقوبات قد تسبب زعزعة استقرار النظام وانهياره في نهاية الأمر. ويأمل مستشار الأمن القومي جون بولتون في أن يوفر رد الفعل الإيراني تجاه الضغوط المتزايدة - سواء بصورة مباشرة أو من خلال أحد العاملين بالوكالة عنها - فرصة أمام الولايات المتحدة لتنفيذ عمليات عسكرية ضد إيران.
 
في سبتمبر (أيلول) الماضي، عندما وجهت الولايات المتحدة اتهامات لإيران بتشجيع ميليشيات عراقية على استهداف منشآت أميركية بالبصرة وبغداد، رأى بعض المسؤولين أن الرد المناسب هو استهداف إيران نفسها. ويقال إن وزير الدفاع السابق جيم ماتيس عارض أي تحرك في هذا الاتجاه. وحمل تحذير وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن الولايات المتحدة لن تتخذ موقف المتفرج إذا مضت إيران في خططها لإطلاق أقمار صناعية، أصداء تلك الدعوات، وربما تشي بتنفيذ صورة ما من صور الأعمال الانتقامية إذا ما مضت إيران في تلك الطريق.
 
ترمب نفسه، بجانب كثير من المسؤولين الآخرين، لا يزال يبدو مهتماً وعاقداً العزم على التفاوض بخصوص اتفاق جديد مع إيران، بناءً على اعتقاده بأنها مجرد مسألة وقت قبل أن تفلح الضغوط في دفع طهران للعودة إلى طاولة المفاوضات. ولم يحدد ترمب أي شروط مسبقة لبدء المفاوضات، مما أصاب مستشاريه الأكثر تشدداً بصدمة. في المقابل، يعتقد بعض المسؤولين، وبثقة، أن المحادثات بين طهران وواشنطن ستنطلق بالفعل قبل نهاية الفترة الرئاسية الأولى لترمب، بل وهناك تقارير تشير إلى أن مسؤولين أميركيين تواصلوا مع آخرين إيرانيين لمناقشة مصير سجناء أميركيين داخل إيران ومستقبل أفغانستان، وإن كانت التقارير المتواترة تشير إلى أن إيران رفضت هذه المحاولات لفتح قنوات اتصال.
 
حتى الآن، لا توجد أدلة تذكر على أن الإدارة في طريقها لتحقيق أي من أهدافها الممكنة. وقد خلص تقدير داخلي مبدئي وضعته الإدارة واطلعت على وصف له «مجموعة الأزمات الدولية»، إلى أن التوجه الأميركي لم يتمكن حتى الآن من كبح جماح السلوك الإيراني أو تحفيز إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات؛ إذ إن إيران زادت وتيرة اختبارات الصواريخ الباليستية التي تجريها، وتبعاً لما أفاد به مسؤولون أميركيون، فإنها لا تزال مستمرة في نقل أجزاء من الصواريخ إلى المتمردين الحوثيين باليمن وجماعة «حزب الله» في لبنان وسوريا. وعلى نطاق أوسع، لا يوجد دليل تاريخي يذكر يشير إلى وجود أي علاقة ارتباط بين الأداء الاقتصادي الإيراني وسياساتها الإقليمية.
 
وبحسب التقرير، تبدو احتمالات تحقيق الهدف الأميركي المعلن الآخر (الدخول في مفاوضات جديدة حول اتفاق أوسع) ضئيلة، بالنظر إلى خوف إيران من أن تؤدي موافقتها على الدخول في محادثات إلى إعطاء شرعية لتوجه ترمب والإضرار بإصرارها على معاودة الولايات المتحدة الالتزام بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» قبل مناقشة البلدين أي قضايا أخرى. في الوقت ذاته، كلما زاد تهديد واشنطن لطهران، ارتفعت احتمالات لجوء إيران إلى سياسات تعدّها محورية: برنامج الصواريخ الباليستية الخاص بها، واستغلال إرثها المتعلق بكونها ضحية لهذه النوعية من الأسلحة أثناء الحرب مع العراق (1980 - 1988)، وشبكة الشركاء والوكلاء التي بنتها في المنطقة لأهداف؛ منها حماية نفسها ضد أهداف خارجية.
 
ويعتقد معدو التقرير بعد لقاءات لهم مع مسؤولين إيرانيين، أن طهران تريد الانتظار لحين رحيل إدارة ترمب. على الأقل حتى هذه اللحظة، لاقت إيران مزايا أكبر في احترام الاتفاق النووي، واستغلال التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وأوروبا لتخفيف تأثير العقوبات الأميركية. ونقل التقرير عن خبير استراتيجي في صفوف «الحرس الثوري» الإيراني، قوله: «إيران سوف تبقى عضواً بـ(خطة العمل الشاملة المشتركة) ما دام بمقدورها استغلالها في نزع الشرعية عن الإجراءات الأميركية».
 
ويبدو أيضاً أن إيران سعت لتجنب استفزاز الولايات المتحدة من خلال المشاركة في صور سلوك أكثر قوة على مستوى المنطقة، خشية أن يشجع ذلك على حدوث رضوخ دولي لحملة ضغوط أميركية أو انتقام عسكري.
 
ومع ذلك، فإنه على أرض الواقع اتضح أن العقوبات الأميركية خلفت تداعيات اقتصادية مدمرة، وهددت استدامة سياسة الصبر الاستراتيجي التي تنتهجها إيران، وزادت الضغوط على عاتق طهران كي تبدي استجابة. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اتهم المفاوض النووي الإيراني السابق سعيد جليلي إدارة روحاني بالضعف و«إهدار وقت البلاد طيلة 7 أشهر فقط للتعرف على موقف الأوروبيين». في يناير (كانون الثاني) الحالي حذر مستشار الأمن القومي بالبلاد بأن مهلة الوقت المتاحة أمام أوروبا لإنقاذ الاتفاق نفدت. وحتى أعضاء من إدارة روحاني بدأوا الآن يشككون في استجابتهم للانسحاب الأميركي باعتبارها مفرطة في الجبن.
 
وبانتظام، يعرب الإيرانيون عن إحباطاتهم تلك أمام الجانب الأوروبي، ويحذرون من تداعيات انهيار الاتفاق. ومن حين لآخر، يروج الإيرانيون لفكرة اتفاق بتنازلات أقل مقابل مزايا أقل، وتبعاً لهذه الفكرة فستوقف إيران التزامها ببعض قيود «خطة العمل الشاملة المشتركة» وإجراءات المراقبة التابعة لها في رد على إعادة فرض عقوبات أميركية ضدها. لكن أوروبا رفضت بحزم أي تغيير في حدود الاتفاق، موضحة أنه «بينما نعارض الانسحاب الأميركي من الاتفاق، فبالنسبة لنا يشكل بصورة أساسية اتفاقا بمنع الانتشار؛ ويعني ذلك أن أي خرق إيراني للبنود النووية من الاتفاق سيستدعي على الفور عقوبات أوروبية».
 
حتى هذه اللحظة، من غير الواضح ما إذا كانت الحسابات داخل طهران ستتغير، أم لا، وتحت أي ظروف. ويؤكد بعض المسؤولين أن إيران ستصل لنقطة الانهيار عندما تنخفض صادراتها النفطية عن مستوى 700 ألف برميل يومياً، وهو الأمر الذي يخشون من أنه سيشعل حالة تضخم كبرى ومظاهرات بمختلف أرجاء البلاد.
 
كما أن اعتبارات سياسية داخلية والاستعدادات قبل الانتخابات الإيرانية المرتقبة واحتمال اشتعال صراع على خلافة المرشد علي خامنئي، من الممكن أن تلعب دوراً، وتزيد الانتقادات الموجهة إلى إدارة روحاني من داخل معسكر المتشددين.
 
يذكر أن إضعاف روحاني من الممكن أن يسمح للمتشددين الذين خسروا جميع الانتخابات داخل إيران منذ عام 2012 بإعادة السيطرة على البرلمان عام 2020 والرئاسة عام 2021، مما يضعهم في موقف أفضل يمكنهم من تحديد من وماذا يأتي بعد خامنئي.
 
وإذا ما قررت إيران أنه يتحتم عليها الرد، فإن ثأرها قد يتخذ صوراً متعددة. من الممكن أن تتجاوز إيران بعض الحدود المنصوص عليها في «خطة العمل الشاملة المشتركة»، رغبة منها في إظهار تحديها وعلى أمل أن يشكل هذا ضغوطاً على الأطراف المتبقية داخل الاتفاق كي يبذلوا مزيداً من الجهود لإنقاذه. على أقل تقدير، بمقدور إيران إنتاج كيلوغرامات إضافية من الماء الثقيل فيما وراء الحد الذي يفرضه الاتفاق والبالغ 130 طناً. وسيقع هذا الخرق داخل ما وصفه مسؤول بالاتحاد الأوروبي بـ«المنطقة الرمادية»؛ وهو فعل لا يتماشى مع الاتفاق، لكن باقي الأطراف ربما لا تراه مبرراً كافياً لإنهاء الاتفاق تماماً. وتتمثل خطوة أخرى محتملة أكثر خطورة في إصدار قرار بتجميع أكثر من 300 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب أو تخصيبه عند مستوى أعلى من 3.67 في المائة، أو اختبار عدد أكبر من أجهزة الطرد المركزي المتطورة عما هو مسموح به، أو التدخل في جهود المراقبة التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
 
أيضاً يمكن أن تختار إيران الاستجابة على نحو غير متناسب من خلال زيادة الضغوط على الوجود الأميركي بالمنطقة. وربما يمثل هذا خياراً أكثر جاذبية بالنسبة لطهران بالنظر إلى أنه يمكنها من التخفي خلف وكلاء أو حلفاء، وبالتالي تقلل مخاطرة حدوث رد فعل أوروبي.
 
ونقل التقرير عن مسؤول إيراني رفيع المستوى بمجال الأمن القومي قوله في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أن المسرح الأكثر احتمالاً لمثل هذه المواجهة هو العراق: وقال: «بإمكاننا إلقاء مزيد من الزيت على النار في اليمن، لكن هذا لن يؤثر على نحو مباشر على الولايات المتحدة. وهناك قوات أميركية في أفغانستان، لكننا نفتقر هناك إلى نوعية الأصول التي نملكها في منطقة الهلال الخصيب. ونملك اليد العليا في لبنان وسوريا، لكن الوضع في كلا البلدين هشّ ومن الممكن أن تنقلب مكاسبنا بسرعة رأساً على عقب على يد أعدائنا، بل وحتى أصدقائنا. العراق هو المكان الذي نملك فيه الخبرة والقدرة على طرح حجة منطقية للإنكار والقدرة على مهاجمة قوات أميركية على نحو لا يستدعي انتقاما مباشرا».
 
في الوقت الراهن، يبدو أن القيادة في طهران تؤمن بأن باستطاعتها البقاء اقتصاديا على الأقل حتى عام 2021 على الأقل، ولا تبدو قلقة كثيراً حول إمكانية حدوث قلاقل داخلية. ويبدو الوضع بالنسبة لها مستقراً رغم السلسلة المستمرة من المظاهرات والإضرابات من قبل جميع أطياف المجتمع الإيراني تقريباً، من سائقي الشاحنات إلى المدرسين وطلاب الجامعة والنساء وعمال الصلب في الأحواز.
 
وفي محاولة لتقويض المتظاهرين بدرجة أكبر، حذرت القيادة من تحويل البلاد إلى سوريا جديدة، أي تشرذم البلاد تبعاً لخطوط تقسيم طائفية وعرقية بسبب جهود الولايات المتحدة وحلفائها. إلا إن الصورة الواثقة التي تصدّرها إيران يدحضها رد الفعل الحكومي العنيف إزاء ما عدّته الحكومة محاولات لزعزعة استقرارها. وجاء رد فعلها قاسيا على هجمات شنتها أقليات عرقية وهجمات صاروخية شنها تنظيم داعش في العراق وسوريا، بجانب، تبعاً لما ذكره مسؤولون أوروبيون، استهداف منشقين على أراض أوروبية.
 
تدور الاستراتيجية الأوروبية في جوهرها، بحسب التقرير، حول شراء مزيد من الوقت حتى يسود صوت العقل في إيران ويعود إلى سدة الحكم في واشنطن. ومع هذا، اتضح أن هذا التوجه أصعب في تطبيقه عما كان متوقعاً في البداية، فقد استفاقت أوروبا على حقيقة أن مؤسسات الدولة ليس بإمكانها فعل الكثير في مواجهة الهيمنة العالمية للدولار الأميركي أو فرض قراراتها على سوق مفتوحة.
 
وأثار هذا الإدراك جدلاً حول الحاجة لاستعادة سيادة أوروبا الاقتصادية، لكن هذا الطموح ـ إذا افترضنا السعي جدياً خلفه ـ من غير المحتمل أن يؤتي ثماراً لمصلحة إيران في المستقبل القريب. ومثلما أوضح دبلوماسي فرنسي: «لقد كنا واضحين مع الإيرانيين حول أنه ليس بمقدورنا تعويضهم عن تأثير خروج الولايات المتحدة من الاتفاق، لكننا سنفعل كل ما بوسعنا لمعاونتهم على إنقاذ ماء الوجه من خلال الإبقاء على كثير من علاقاتنا التجارية الاقتصادية».
 
من جانبهم، يواجه الإيرانيون صعوبة في التأقلم مع هذا الواقع. وذكر دبلوماسي إيراني: «تملك أوروبا الإرادة السياسية، لكن ليس العملية كي تقف في وجه الولايات المتحدة».
 
في الواقع؛ إن الإجراءات التي اتخذتها أوروبا، ورغم أهميتها الرمزية، لم تقدم منافع عملية لإيران... سوى شراء الوقت.