نيويورك تايمز: جميعهم يُدركون جيدًا حجم الضريبة التي ستُدفع في النهاية.. ما وراء أساطير مهنة مصوري الحروب؟

تهيمن صورةٌ أسطورية على مهنة تصوير الحروب، صنعتها السينما بالأساس، يبدو فيها المصور رجلًا مفتول العضلات يعمل وحده ويرتدي وشاحًا، متنقلًا من منطقة حرب إلى أخرى.
 
لكنَّ مصور الحروب فينبار أورايلي يوضح في مقالٍ كتبه لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أنَّ تلك الصورة بعيدةٌ عن الواقع، وأنَّ هذه الكليشيهات تتجاهل الشكوك والمخاوف والأسئلة الأخلاقية التي يواجهها مصورو الحروب، ومشاعر الوحدة والألم التي يقاسونها، والتي خلقت كليشيه آخر يبدو فيه المصور بطلًا منكسرًا بسبب الأهوال التي شهدها.
 
يشير أورايلي إلى كتاب الطبيب النفسي أنتوني فاينشتاين «Shooting War»، الذي يُلقي الضوء على حياة هؤلاء المصورين. نشر فاينشتاين في كتابه ملفًا شخصيًا لثمانية عشر شخصٍ من مُصوِّري الصراعات، يبدأ كلٌ منها بصورةٍ واحدةٍ صادمةٍ من تصويره. تضمن هؤلاء المصورون دون ماكولين، وتيم هيذرينجتون وكوريني دوفكا، ويفحص فاينشتاين في الكتاب دوافعهم وصدماتهم ومرونتهم.
 
وبحسب أورايلي، كتب فاينشتاين في كتابه: «بعكس الجنود، لا يتدرَّب المُصوِّرون على العنف. لكنَّ فترة مُعايشتهم الطويلة للجبهات الأمامية لا مثيل لها. إذ يعودون إلى أرض المعركة مرارًا وتكرارًا، وجميعهم يُدركون جيدًا حجم الضريبة التي ستُدفع في النهاية».
 
يرى الكاتب أنَّ فاينشتاين مُؤهلٌ جيدًا للحديث بهذا الصدد. إذ شهد الصراع في ناميبيا عام 1982، حين كان يؤدي خدمة التجنيد الإجباري بوصفه طبيبًا في الجيش الجنوب أفريقي. وبعد مرور عقودٍ من الزمن، أجرى دراساته الأولى على الصدمات التي تُصيب الصحفيين، وكتب كتابه «Journalists Under Fire: the Psychological Hazards of Covering War» بناءً على نتائج تلك الدراسات. واستوحى الفيلم الوثائقي الذي أنتجه بعنوان «Under Fire» من قصة الكتاب، وهو الفيلم الذي ترشَّح لجائزة أوسكار وحصل على جائزة بيبودي. وفي تورنتو، محل إقامته، يُقدِّم فاينشتاين الدعم النفسي لعددٍ لا حصر له من الصحفيين الذين يعمل كثيرٌ منهم مصورين. (ويشير أورايلي في مقاله إلى أنَّه حضر جلساتٍ علاجيةٍ مع الدكتور فاينشتاين وكان واحدًا من الصُحفيين الذين رُويت قصتهم في الفيلم).
 
بحسب أورايلي، غالبية الصور في كتاب فاينشتاين معروفةٌ للغاية، وكذلك القصص وراءها. لكنَّه يرى أنَّ الصراحة التي يكشف بها المُصوِّرون -أربعةٌ منهم نساء- عن معاناتهم مع اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والصعوبات الشخصية الأخرى تعكس تحوُّلًا كبيرًا. فهمنة تصوير الحروب التي يُهيمن عليها البيض والغربيون والرجال كانت عادةً تنأى بنفسها عن مناقشة الصحة العقلية علنًا.
يروي الكاتب بعض القصص المأساوية للمصورين العاملين في تلك المهنة. من هؤلاء سيباستياو سالجادو، الذي انتابه شعورٌ عميقٌ بالحزن مُقترن بقناعةٍ أنَّ الجنس البشري ضلَّ طريقه في أعقاب توثيق الآثار المترتبة على الإبادة الجماعية في رواندا. وهناك يانيس بيهراكيس، المُصوِّر اليوناني الذي يعمل لصالح وكالة رويترز،. نجا بيهراكيس من كمينٍ قُتِلَ فيه اثنان من زملائه في سيراليون، أحدهما كان أعز أصدقائه، قبل أن يزحف لثلاث ساعاتٍ بين الأحراش إلى بر الأمان. وعانى في وقتٍ لاحقٍ نوباتٍ من الاكتئاب الشديد كانت تحول بينه وبين النهوض من سريره في الصباح. أما بيتر ماجوبان، الجنوب أفريقي ذو البشرة السمراء الذي وثَّق عدم المساواة في ظل نظام الفصل العنصري، فقد ظل في الحبس الانفرادي نحو 586 يومًا دون أن يُدان بارتكاب أي جريمة. وقضى جوا سيلفا، وهو مُصوِّرٌ آخر من جنوب أفريقيا يعمل لحساب صحيفة «نيويورك تايمز»، سنواتٍ في تغطية النهاية العنيفة لنظام الفصل العنصري وحروبٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وخسر العديد من أصدقائه على طول الطريق، قبل أن يفقد ساقيه حين داس عبوةً ناسفة في أفغانستان. ويُرافق ملفه الشخصي ثلاث صورٍ لساقيه الممزقتين وقدمه المتدلية التقطها في أعقاب الانفجار.
 
لكنَّ أورايلي يشير إلى أنَّه أحيانًا تأتي الضربة للمصور من خارج ساحة المعركة، على يد المُحرِّرين في الصحف والمجلات. ومن هؤلاء المصورين كارول جوزي، مُصوِّرة صحيفة «واشنطن بوست» الحائزة على أربع جوائز بوليتزر، التي كانت تعاني من الذكريات عن النساء والأطفال القتلى بعد عملها لمدة 25 عامًا في تغطية الصراعات. لم تكن الحرب هي ما دفع كارول إلى حافة الهاوية، بل تدهور صحة أفراد أسرتها ووفاة أحد أصدقائها، قبل أن يصلها خطابٌ من جريدتها يُبلغها بالاستغناء عن خدماتها دون إبداء أسباب. وقالت إنَّ فقدان وظيفتها سلبها هويتها. فشعرت بالإهانة.
 
وأوضحت كارول لفاينشتاين: «شعرتُ بانكسارٍ لم أشعر به من قبل في ذلك الوقت. حين تفوز بجوائز البوليتزر تجد الجميع حولك، ثم تدخل في الظلام لتكتشف من يُحبِّك فعلًا».
 
وفقًا لما كتبه فاينشتاين، فإنَّ صُحفيي الصراعات يسارعون في حديثهم دائمًا لتوضيح أنَّ ما يُواجهونه هو أمرٌ بسيط مُقارنةً بما يتحمله ضحايا الحروب أو الكوارث. لكنَّ الأمر ليس بسيطًا إلى هذا الحد كما يدعون بحسب أورايلي. إذ كشف مثلًا المصور سانتياجو ليون، الذي أُصيب في البوسنة، أنَّه يعرف عشرات الزملاء الذين لقوا مصرعهم أثناء العمل. وتُعَدُّ خسارة الأصدقاء وزملاء العمل أو الوظيفة من ضمن أكثر الأحداث إرهاقًا في الحياة، وفقًا لدراسةٍ أشار إليها فاينشتاين. وخسارة الوظائف أصبحت أمرًا شائعًا في صناعة تصوير الحروب التي تُعاني تقلُّص الميزانيات.
 
يوضح أورايلي أنَّه في السنوات الأخيرة، ازداد وعي المصورين بالأضرار التي تُصيب أرواحهم وحالتهم النفسية. يتضمَّن هذا النوع من الإصابات انتهاك القانون الأخلاقي للفرد بارتكاب الفظائع أو رؤيتها أو الفشل في الحيلولة دون وقوعها، مما يُؤدي إلى الشعور بالعار والذنب.
 
ويُورد الكاتب أمثلةً على ذلك في قصة المُصوِّر الأسترالي آشلي جيلبرتسون، الذي تُلازمه ذكريات جندي من مشاة البحرية الأمريكية كان مُكلَّفًا بحمايته في العراق، في حين تعاني المصورة الفرنسية لورانس جاي لشعورها بالذنب بعد أن عجزت عن إيقاف عملية إعدامٍ جماهيريةٍ بجمهورية أفريقيا الوسطى.
 
وهنا يطرح أورايلي سؤالًا مهمًا: لماذا يخاطر المُصوِّرون إذن بالتعرُّض للضرب أو السجن والتعذيب والاحتجاز مقابل فدية أو تشويه أجساهم أو قتلهم؟ وكيف يتكيَّفون مع ذلك؟ ويُجيب بأنَّه وفقًا لتقديرات فاينشتاين، فهم يتحركون مدفوعين بقناعاتهم ومدعومين بمبادئهم. تُؤدي تلك الأمور دور الدرع العاطفي، وتُمثِّل مصدرًا للمرونة.
 
يذكر الكاتب أنَّ جيلبرتسون بحث بعد عودته عن عائلة جندي مشاة البحرية الأمريكية الذي مات أثناء الدفاع عنه، قبل أن ينطلق في رحلةٍ لتعويض أسرته صوَّر خلالها غرف أفراد الخدمة الذين خرجوا إلى الحرب دون عودة. أمَّا لورانس فعزمت بعد الحادثة المؤلمة التي تعرضت لها على التدخل في اللقاءات التالية لمنع الجماهير القاتلة. وعاد سالجادو إلى مزرعة عائلته. بينما ظل بيهراكيس مُنخرطًا في عمله الإبداعي، ويحمل ماجوبان ثِقَل التاريخ على كتفيه. أما سيلفا، فيُركِّز على استشفائه الجسدي وما يستعيده يوميًا، وليس ما فقده.
 
وبحسب أورايلي، كتب فاينشتاين عن سيلفا قائلًا: «سرعان ما اتضح لي أنَّ ما يقوم به هو أكثر البدائل المنزلية للعلاج السلوكي المعرفي فاعليةً، فمن خلاله تُجتث التأملات السلبية من جذورها ليحل محلها أسلوب تفكيرٍ أكثر تركيزًا على المستقبل والمشكلات القابلة للحل. لم يكن هناك متسعٌ من الوقت لرثاء الذات. فقط التركيز على الحياة يومًا بيوم، والبقاء قويًا».
 
أشار فاينشتاين في كتابه إلى فكرة نيتشه التي تقول إنَّ علينا العيش في خطر لنجني من الوجود أجمل ما فيه. وبناءً على هذه الفكرة، يرى أورايلي أنَّ الحرب تُوفِّر الصدمة المثيرة للعيش على حافة الهاوية، والصداقات التي صقلتها الضغوطات والفراق الصعب الذي يعقبها، فضلًا عن معايشة «نُبل الروح البشرية الذي تكشف عنه الحرب بشكلٍ متناقض». وهذه الأمور توفر ترياقًا للرعب الذي يشعر به المصورون بحسب فاينشتاين. ويخلُص الطبيب في كتابه إلى أنَّ «تلك الإيجابيات تتفوق على السلبيات دون شك، وتجذب باستمرار الأشخاص ذوي المزاج المناسب».
 
يرى أورايلي أنَّ الحرب تثقل كاهل المصورين بديْنٍ وتطاردهم لدفعه طوال الوقت. لكنَّ العديد من الأسباب تقود المُصوِّرين إلى دوامة الحرب في النهاية، وأبسطها هو أفضلها: هناك صورٌ تحتاج من يلتقطها، وقصصٌ بانتظار أن تُروى.