من قصص الجاسوسية.. كيف دربت بريطانيا عملاءها خلال الحرب العالمية الثانية؟

نشاهد في أفلام الجاسوسية أشخاصًا عاديين يجري تدريبهم على التجسس، وإتقان المهارات الخاصة التي تتطلبها تلك المهنة الخطيرة. وفي الحقيقة، فإن الواقع لا يختلف كثيرًا عما نُشاهده في الأفلام، ويبدو أنه يمكن لأي أحد أن يتحول إلى جاسوس، وقاتل صامت، ومنظم في حركات المقاومة مع بعض التمرين.
 
عندما نعود بالزمن إلى الوراء، وتحديدًا في بريطانيا، نجد مدارس تدريب سرية تابعة للدولة، يجري فيها تعليم المتدربين المختارين بعناية على التخريب وخلق الفوضى في أوروبا المُحتلة والشرق الأقصى. وفي تلك الأثناء يمر المجندون خلال عملية اختيار صارمة يخوضون خلالها عددًا من الاختبارات، التي تتطلب أعصابًا فولاذية وحماسًا مُتّقدًا؛ كي يُصبحوا جواسيس سريين لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. نتناول في السطور التالية وقائع تلك الأحداث.
 
وحدة تنفيذ العمليات الخاصة.. جيش من العملاء السريين
 
أنشأ ونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية «وحدة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية» (SOE) في عام 1942؛ لتؤدي دورها منظمةً سريةً تعمل على تدريب جواسيس قادرين على إسقاط الأنظمة في الدول المحتلة، وخلق الفوضى. وكان هدفها الرئيس كما قال عنها تشرشل: «إشعال النار في أوروبا».
 
وقع مقر تلك الوحدة في شارع «بيكر»، الشارع نفسه الذي كانت تقطن فيه شخصية المحقق شارلوك هولمز الشهيرة. وكان يجري بها تجنيد مجموعات من النساء الجسورات للقتال جنبًا إلى جنب مع الرجال؛ حتى يُصبحوا عملاء تابعين للمنظمة البريطانية السرية، المتخصصة في إجراء العمليات الخاصة.
المدرسة التمهيدية.. مرحلة تقييم شخصيات العملاء وإمكاناتهم
 
في يونيو (حزيران) عام 1943، قدمت الوحدة طريقة أكثر انسيابية لإجراء عملية الاختيار الأولي للمجندين؛ فأنشأت ما عُرِف باسم «المدارس التمهيدية»، والتي كانت بمثابة مجلس لتقييم المتدربين. كانت المدرسة التمهيدية إحدى مدارس وحدة تنفيذ العمليات الخاصة السرية التي يجري بها أولى مراحل الاختبارات لاختيار المجندين بعناية. وفيها يجري تقييم شخصية العملاء وإمكانياتهم، دون الكشف عما تُخطط له الوحدة.
 
هناك أُعطِي المتدربون مجموعة واسعة من الاختبارات على مدار أربعة أيام، ركزت على اختبار البنية النفسية بالأخص للعملاء السريين المحتملين. وسرعان ما كان يجري إرسال المرشحين الذين لا يجدونهم مناسبين إلى مركز يُدعى «المُبرِّد»؛ حيث يجري حثّهم على نسيان القليل الذي تعلموه عن «وحدة تنفيذ العمليات الخاصة»، في حين يجري إرسال أولئك الذين اجتازوا المرحلة الأولية إلى المدارس شبه العسكرية، والمعروفة باسم «مدارس المجموعة (أ)»، والتي كانت تتمركز تحديدًا في أسكتلندا، وتُقام بها الدورات التدريبية القاسية، مثل تضاريسها المرتفعة.
 
وقد تلقى العملاء المجندون في المدارس التمهيدية التدريب البدني، وتعلموا كيفية التعامل مع الأسلحة، وفنون القتال غير المسلح، بالإضافة إلى إجراء عمليات الهدم الأولية، وكيفية قراءة الخرائط، إلى جانب تعلم إرسال الإشارات عبر استخدام الاتصالات اللاسلكية.
 
المدارس شبه العسكرية.. تحدي العراقيل الطبيعية ومواجهة الاستجوابات الوهمية
 
بعد تخطي مرحلة المدارس التمهيدية، يتوجه المتدربون إلى المدارس شبه العسكرية التي تمركزت في 10 مراكز للرماية في منطقتي أريسيج ومورار، حيث تواجد مقر طاقم وحدة تنفيذ العمليات الخاصة في أسكتلندا في «دار أرسييج (Arisaig House)».
 
في البداية استمرت الدورات التدريبية بها لمدة ثلاثة أسابيع، ثم جرى مدّ فترة التدريب في وقت لاحق إلى خمسة أسابيع. وشملت التدريبات: التدريب على البقاء أحياء فوق المرتفعات الأسكتلندية؛ حيث تتحدى العراقيل والمعوقات الطبيعية قدراتهم، بالإضافة إلى فنون القتل الصامت، واستخدام البوصلة، وممارسة الحرف الميدانية، علاوةً على طرق فتح الأقفال، وإرسال الرسائل المشفرة باستخدام شفرة مورس، ومواجهة استجوابات وهمية مكثفة، إلى جانب التخطيط لشن الغارات.
 
كان التدريب في التضاريس الأسكتلندية شاقًا، ويتطلب جهدًا كبيرًا من أجل النجاة؛ إذ كان يتوجب على المتدربين من الرجال والنساء إكمال الدورة التدريبية، وتحدي التعب والإرهاق فوق المرتفعات الشاهقة، وتحمَل الكدمات والجروح التي تُغطيهم أثناء الزحف على بطونهم، وتسلق الجبال المرتفعة. وفي الأغلب استغرق المجندون الجدد 10 أسابيع من التدريب للإلمام بجميع جوانب العمل المخابراتي والتجسس. بعد ذلك يتلقى البعض منهم مزيدًا من التدريب المتخصص، بينما يُصبح الآخرون مستعدين لتنفيذ مهمتهم الأولى.
 
وقد تنوعت جنسيات العملاء السريين المتدربين من مختلف أنحاء العالم؛ فكان من بينهم الكنديون، والذين شكلوا نسبة كبيرة من المتدربين؛ إذ كانت كندا تأوي عددًا كبير من المهاجرين الأوروبيين، الذين تمتعوا بمجموعة مفيدة من المهارات اللغوية. وفي وقت لاحق، انضم إليهم مجندون من أمريكا الجنوبية، والولايات المتحدة، إلى جانب الجواسيس البريطانيين الذين تدربوا هناك.
 
كذلك فرض البروتوكول الأمني ​الخاص بـ«وحدة تنفيذ العمليات الخاصة» ​عدم خلط المتدربين من مختلف الجنسيات معًا؛ فجرى وضع كل مجموعة من جنسية واحدة في مدارس منفصلة. أيضًا كان التدريب على الهدم والتفجير أمرًا أساسيًا ضمن تدريبات وحدة العمليات الخاصة، التي كانت سياسة التخريب مهمة أولى على قائمة المهام الموكلة بها. هذا فضلًا عن تعليم المتدربين كيفية إلقاء متفجرات وهمية، وإشارات ضبابية، ثم الانصراف والاختباء بعيدًا.
 
بطولات نسائية.. كيف شاركت النساء الرجال في الحرب الجاسوسية
 
إلى جانب الرجال شاركت نحو 3200 امرأة في التدريب على حمل السلاح، وتعلم فنون القتل الصامت، والتخريب. وقد جرى القبض على العديد منهن وتعذيبهن خلال الحرب العالمية الثانية، وانتهى أمر الكثير منهن بالموت في معسكرات الاعتقال.
 
بدأت «وحدة تنفيذ العمليات الخاصة» البريطانية منذ عام 1941 في تجنيد النساء اللاتي تمتعن بالمهارات اللغوية في «القوات الجوية المساعدة النسائية (WAAF)»، أو «طاقم التمريض الخاص بالإسعافات الأولية (FANY)»، أو «خدمة النقل المساعد (ATS)» قبل إرسالهن للتدريب المتخصص.
 
وقد تميزت المجندات الإناث ببعض المزايا عن المجندين الرجال، منها: قدرتهن على الاختلاط، والسفر في القطارات أو الترام، أو ركوب الدراجات حاملين متفجرات مخبأة داخل مشتريات البقالة كما يبدو للسكان المحليين، دون إثارة كثير من الشكوك حولهن، هذا إلى جانب أن النازيين لم يكونوا يجمعون النساء للعمل بالسخرة مثل الرجال.
 
وبعد أن احتلت ألمانيا فرنسا أُرسلت 39 عميلة سرية إلى فرنسا للعمل مع إحدى حركات المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، وغيرها من حركات المقاومة. وقد كان يجري إرسالهن خلف خطوط العدو بواسطة المظلات أو قوارب الصيد، ولعبت العميلات السريات دورًا كبيرًا في تشكيل الجيش السري لمقاتلي المقاومة من العملاء السريين الذين مهدوا الطريق لغزو الحلفاء وإسقاط النازيين.
 
وقد جرى الاحتفاء ببعضهن في الكتب والأفلام، مثل أوديت سانسوم، إحدى ضباط مخابرات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تحولت قصة حياتها إلى فيلم «Odette» الذي صدر عام 1950، أيضًا فيوليت زابو إحدى عميلات تنفيذ العمليات الخاصة، التي قبض عليها الجيش الألماني خلال مهمتها الثانية في فرنسا المحتلة، وجرى استجوابها وتعذيبها، ثم رُحِّلت إلى أحد معسكرات الاعتقال في مدينة رافنسبرك بألمانيا؛ حيث أعدِمت، وتناول فيلم «Carve Her Name with Pride» الصادر عام 1958 قصة حياتها.