تحقيق صحفي بريطاني يكشف أسرار هجرة إيرانية خفية إلى المملكة المتحدة وأوروبا

عندما بدأت أزمة المهاجرين قبل حوالي 3 سنوات، اعتقد الكثيرون أنها قضية سورية بالأساس. حينها، اتجه السوريون العاديون نحو أوروبا هربًا من فظائع الحرب، في أكبر هجرة جماهيرية حصلت منذ الحرب العالمية الثانية. وكما يعلم جميع الخبراء اليوم، فإن اقتصار أسباب الهجرة العامة على الحرب الأهلية السورية هو تحليل خاطئ جدًا. في الحقيقة، كانت الهجرة السورية جانبًا واحدًا من ظاهرة إقليمية متعددة الجوانب، باتت تتكشف تفاصيلها يومًا تلو الآخر.

وفي إطار العمل الصحفي المهني، تتبعنا درب المهاجرين، وتعقبنا القادمين الجدد سيرًا على الأقدام، وبالحافلة، والقطار، وحتى الناقلات البحرية عبر الجزر اليونانية والبلقان. وخلال ذلك، سمعنا الكثير من اللغات، إلى جانب اللغة العربية، منها اللغات البشتوية والأردية والبنغالية، وحتى الفرنسية التي تحدثت بها قبائل كونغولية على الحدود الصربية – المجرية. لكن اللغة التي صدمتنا جميعًا هي اللغة الفارسية المستعملة في إيران، بما فيها لهجات تستخدمها الطبقات الوسطى في قلب طهران.

تبين لنا بعد التحري والتحقيق أن بريطانيا تواجه واقع هجرة إيرانية غير مرئية حتى لحظة كتابة هذا التقرير. وبالفعل، وردت تقارير حديثة جدًا حول مهاجرين يقومون بمحاولات يومية لعبور القناة الإنجليزية عبر الزوارق، حوالي النصف منهم يقولون إنهم إيرانيون. بدا الأمر غريبًا للوهلة الأولى؛ لأن إيران لا تعاني من حرب أو مجاعة أو كارثة إنسانية أخرى. ولكن وفقًا لمنظمة “بيت المهاجرين” في مدينة كاليه الفرنسية، فإن الهجرة الإيرانية تختلف كليًا عن غيرها، إذ إن الإيرانيين هم “الوحيدون الذين يجرؤون على عبور القناة ويجدون وسائل شتى للقيام بذلك”.

تشير المعلومات الرسمية في وزارة الداخلية البريطانية إلى أن الإيرانيين تصدروا قائمة الجنسيات التي تسعى إلى اللجوء في المملكة المتحدة للسنة الثالثة على التوالي، بـ4000 طلب في عام 2016، و2600 طلب عام 2017. لكن ما يثير التساؤلات هو أن أعداد الإيرانيين الذين يحاولون العبور إلى إنجلترا بشكل غير شرعي، على متن سفن غير صالحة للإبحار، في تنام مستمر، بل وأصبحت ظاهرة حقيقية غير مرئية لدى الكثيرين. فما الذي يدفع الإيرانيين إلى فعل ذلك؟!

يفيد المهاجرون الإيرانيون أن طهران أصبحت بائسة جدًا منذ أن عاد آية الله الخميني من منفاه الباريسي لينطلق بدولته الشيعية. ووفقًا لهم، أصبحت البلاد خانقة جدًا بسبب ممارسة عقوبات فظيعة مؤلمة شملت الجلد والسجن والموت لكل من يتحدث بما يخالف رغبة الحكام، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية المتردية والفساد المستشري في كل أركان النظام. وبرغم الأمجاد الحضارية في إيران، يرى الكثير من المهاجرين أن البلاد تحولت إلى أرض قاسية روحانيًا، وأن النظام يتحمل مسؤولية رئيسة عن “مرض تغلغل عميقًا في الروح الوطنية الإيرانية”.

ويبدو أن هذا هو السبب الذي دفع الإيرانيين الذين خرجوا للتعليم في الماضي إلى عدم العودة إلى البلاد والاستقرار في الخارج. وبرغم أن الهجرة الإيرانية غير الشرعية حديثة الولادة وباتت تتكشف شيئًا فشيئًا، إلا أن الهروب الأسري من البلاد ليس وليد اللحظة، بل بدأ منذ 4 عقود.

هنالك العديد من العوامل التي ساهمت في تشجيع الإيرانيين على الهجرة غير الشرعية باتجاه أوروبا بشكل عام والمملكة المتحدة بشكل خاص، دون اللجوء إلى القنوات الرسمية الحكومية. هنالك شبكات تهريب بشرية حديثة تعمل على نقل الناس من “نقطة أ” إلى “نقطة ب” عبر الحدود الوطنية مقابل مبالغ مالية متفق عليها. وقد تعززت هذه الوجهة في ظل تكنولوجيا المعلومات، وتوافر الهواتف الذكية الرخيصة المزودة بقدرات “نظام التموضع العالمي”، ما أتاح الكشف عن مسارات برية وبحرية جديدة غير خاضعة للرقابة والتدقيق.

وبحسب الشهود المهاجرين، تقوم كل مجموعة مهاجرة بترك “فتات خبز رقمي” للمجموعة المهاجرة التالية. هنالك العديد من الحيل التي يلجأ إليها المهاجرون حتى عندما تفتح الحكومات وتغلق حدودها. لقد وجدنا أن هناك مجموعات كاملة على مواقع التواصل الاجتماعي –ناطقة بالفارسية– مخصصة لمساعدة “المسافرين” الإيرانيين إلى أوروبا. ومن الجدير ذكره في هذا السياق، أن المهاجرين الإيرانيين يتسترون وراء مصطلح “المهاجرين الأفغان”.

امتلكنا نظرة ثاقبة على هذا العالم عندما انضممنا إلى مجموعة من المهاجرين الإيرانيين والأفغان، جميعهم من الرجال، في منزل تهريب آمن في حي من أحياء الطبقة العاملة في إسطنبول. كان المنزل مليئًا بالصراصير، لكنه شكّل وجهة استقرار آمنة مؤقتة للإيرانيين المهاجرين، الذي مروا عبر جبال شمال غربي إيران نحو تركيا. بعد مكوثهم في المنزل التركي لفترة وجيزة، استعد المهاجرون لركوب الزوارق في رحلة بحرية عبر إيجه إلى اليونان.

كانت العملية أشبه بعمل من الأعمال التجارية؛ ففي إحدى المحطات، استدعانا المهرب الأفغاني إلى مكتبه المؤقت، وحاول بيعنا خدمات تتجاوز رحلة القارب الأساسية المتجهة نحو الجزر اليونانية. قدم لنا المهرب عرضًا مغريًا؛ أن ندفع له 8000 دولار عن كل واحد منا، إضافة إلى مبلغ الـ2000 دولار المتفق عليه من أجل معبر إيجه، مقابل أن يقوم رجاله بنقلنا من أثينا مباشرة إلى باريس أو برلين أو أي مكان آخر بالسيارة، مجنبًا إيانا مخاطر السير على الأقدام أو السفر عبر الحافلات العامة أو القطارات. وتبين لنا أن معظم المهاجرين الإيرانيين الذين يمتلكون المال يفضلون هذا الخيار، ويذهبون إلى المملكة المتحدة.

تحدثنا إلى العديد من المهاجرين الإيرانيين الذين وصلوا إلى الأراضي البرية الأوروبية، وتحدثوا لنا عن أماكن وجهتهم المفضلة. قال أحدهم: “فنلندا باردة للغاية، ولا توفر الكثير من الرفاهية، بينما سويسرا غالية جدًا”. أجمع الإيرانيون الذين قابلناهم على أن “بريطانيا هي الوجهة الأفضل، لا سيما أن جميعهم يتحدثون الإنجليزية إلى جانب الفارسية”. وقد كانوا يدركون أن عبور القناة الإنجليزية ليس أمرًا سهلًا، ما دفع بعضهم إلى اختيار ألمانيا أو السويد.

وعلى عكس الأفغان، لا يمكن للإيرانيين أن يدعوا الفرار من الحرب أو طالبان، لذا إما يتظاهرون بأنهم أفغان (وهو أمر ليس صعبًا على الإطلاق)، أو يستشهدون باضطهاد النظام “بسبب اعتناقهم الديانة المسيحية”. وبالفعل، أفادت كاثدرالية ليفربول أن إيرانيًا واحدًا على الأقل يعتنق المسيحية في كل أسبوع. هنالك بعض المتحولين الحقيقيين، لكن غالبية الإيرانيين الذين تحدثوا معي، أخبروني بأن السلطات الأوروبية، والبريطانية بالتحديد، تتعامل مع طلبات لجوء المسيحيين أو الشواذ جنسيًا بشكل أفضل، لذا يزعمون كلا الحالتين.

قبل بضع سنوات، لم يكن حديث الإيرانيين المهاجرين منفتحًا بهذا الشكل، لكن بعد أن أصبح التهريب صناعة عالمية هائلة، لم يعد أولئك يترددون بالكشف عما وراء الكواليس، وبات الناس يصلون من طهران إلى كاليه وكينت بكل سهولة، بحثًا عن حياة أفضل.