نجوم تهز الأرض وتمنح الذهب... الإنسان يرى لأول مرة ظاهرة كونية بفضل الموجات الثقالية

أعلن علماء الفيزياء الفلكية الاثنين عن اكتشاف لا سابق له، حيث مكنت الأمواج الثقالية من الاهتداء لرؤية اصطدام نجمين من نوع خاص بواسطة المقراب (التلسكوب) وذلك على بعد 130 مليون سنة ضوئية عن كوكب الأرض. وهي الظاهرة المسؤولة عن تكون الذهب. ويؤكد هذا الاكتشاف الجديد دخول علم الفلك عصرا جديدا بفضل الموجات الثقالية التي كانت موضوع جائزة نوبل للفيزياء هذا العام.

 

أكثر من سبعين مرصدا ومقرابا عبر العالم شاركوا في هذا الإنجاز العلمي الأول من نوعه والذي مكن من رؤية اصطدام نجميْن من النجوم النيوترونية في الكون. لكن الفضل يعود أولا لتعاون برنامجي "ليغو" الأمريكي و"فيرغو" الأوروبي للموجات الثقالية (المعروفة إعلاميا بأمواج الجاذبية). خلال ثلاثة مؤتمرات صحفية تم عقدها في آن واحد في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الاثنين، أعلن علماء الفيزياء الفلكية رؤيتهم للظاهرة في سابقة من نوعها.

 

هذا الاكتشاف الجديد مميز بكل المقاييس. فهو يؤكد عدة نظريات وحسابات وتوقعات سابقة بشكل ملموس، أو بالأحرى بشكل منظور!

الأمواج الثقالية تظهر اهتزازا لما يعرف بالزمكان، كما تنبأ بذلك ألبرت أينشتاين قبل قرن من الزمن. في المرات الأربع السابقة التي تم فيها رصد تلك الموجات، كان السبب تصادم ثُقبين أسودين في مجرات بعيدة جدا. وكما هو معروف، فإن الضوء لا ينبعث من الثقوب السوداء. لا يمكن لعلماء الفلك رؤيتها عبر التلسكوب، بل يستشعرون وجودها بعدة طرق أخرى.

 

البحث عن دلائل ضوئية

منذ عدة سنوات، أظهرت حسابات ونظريات علماء الفيزياء الفلكية أن الأمواج الثقالية يمكن أن تنتج أيضا عن اصطدام نجوم من نوع خاص. يتعلق الأمر بالنجوم النيوترونية. فهي نجوم مكونة من النيترونات وذات كثافة ضخمة تفوق بكثير كثافة النجوم العادية كالشمس. إذ تتركز كتل تلك النجوم في قطر يقارب 20 كيلومترات فقط. ملعقة من مادة تلك النجوم تزن مليار طن! تصادم نجميْن من النجوم النيوترونية بسبب تجاذبهما قد يحدث تموجات في الزمكان حسب ما توقعته الحسابات الرياضية.

 

وهذا ما استشعره فعلا "ليغو" وهو برنامج لرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري في 17 من أغسطس/آب الماضي. فقد شهدت المراصد في وقت واحد على تموجات صادرة من مكان أقرب في الكون وبشدة أقل مما تم رصده عند اصطدام ثُقبين أسودين. دام رصد تلك الموجات لقرابة 100 ثانية مقابل أقل من ثانية واحدة في المرات السابقة. فهل هي النجوم النيوترونية إذن؟

 

للتأكد من ذلك، وجهت كل المقارب (التلسكوب) "أعينها" نحو مجرة NGC 4993 من حيث صدرت تلك الموجات الثقالية. الهدف: رؤية مؤشرات عن تصادم نجمين هناك. فعكس الثقوب السوداء المظلمة، تصادم النجوم النيوترونية يطلق كمية هائلة من المادة تخلف آثارا مرئية يمكن رصدها عبر المقارب المتعددة على الأرض وفي الفضاء (الضوء، الأشعة السينية X، الأشعة تحت الحمراء، أشعة غاما...)

 

حفل ألعاب نارية

وما رآه الفلكيون في ليلة 17 أغسطس/آب الماضي فاق كل التوقعات. وتقول عالمة الفيزياء والفلك في جامعة كارديف البريطانية بانغالور ساثيابراكاش: "لقد كانت الاثنتا عشرة ساعة التي تبعت رصد الموجات الثقالية الأكثر تشويقا وحماسا في حياتي العلمية".

العلماء يشبهون ما رأوه بحفل للألعاب النارية. فقد رصد قرابة 70 مقرابا العديد من الأشعة بدأت بنفحة دامت ثانية واحدة من أشعة غاما وصواعق من الأشعة الحمراء وضوءا حادا ومشعا دام عدة ساعات في جنوب كوكبة الشجاع (Hydra constellation) على بعد 130 مليون سنة ضوئية.

 

معاينة هذا الاصطدام أكدت بشكل مملوس ولأول مرة نظرية علمية تفيد بتكون العناصر الكيميائية الأثقل في الكون كالذهب واليورانيوم والبلاتينيوم خلال اصطدام النجوم النيوترونية. ويقول أندرياس فريز عالم الفيزياء الفلكية في جامعة بيرمنغهام لصحيفة الغارديان : "من شبه الأكيد أن خاتم الزواج في إصبعكم أو ساعة الذهب التي ترتدون تكونت مادتها قبل مليارات السنين بسبب تصادم نجمين نيوترونييْن. إنه لأمر فريد".

 

وبعد اكتشاف ومعاينة هذه الظاهرة الفلكية، دخل العلماء في سباق مع الزمن دام شهرين لدارسة كل المعطيات المستقاة قبل الإعلان الرسمي يوم الاثنين. عدة مقالات علمية تم نشرها في مجلات شهيرة مثل Nature أو Nature Astronomy أو Physical Review Letters لشرح المعطيات الأولى لهذا الاكتشاف.

 

ويؤكد هذا دخول علم الفلك مرحلة جديدة تعد بالمزيد من المفاجآت بفضل فهمنا ودراستنا للموجات الثقالية. نعيش اليوم حقبة تحاكي تلك التي تلت استعمال غاليليو لأول مرة منظارا لرؤية الأجرام السماوية في بداية القرن السابع عشر. وولدت شعبة جديدة اليوم تسمى علم الفلك الثقالي.

ويقول باري باريش، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء 2017 بفضل بحوثه حول الموجات الثقالية لصحيفة لوموند: "هذا الاكتشاف الجديد مشوق جدا حيث يجعل من علم الفلك متعدد الرسائل حقيقة ملموسة. لقد أثبتنا قدرتنا على إنجاز ملاحظات فلكية بوسائل متعددة تتقاطع لتؤكد نتائج أعمالنا".

 

عن أي موجات ثقالية تتحدثون؟

تم رصد الموجات الثقالية لأول مرة خريف عام 2015. هذه الموجات تنبأ بها ألبرت آينشتاين عبر نظريته وحساباته قبل أكثر من مئة عام. ظواهر الكون الضخمة تحرر طاقة هائلة تهز ما يسند كل المادة الموجودة في الكون رباعي الأبعاد، ألا وهو الزمكان.

 

لحسن الحظ، الأرض بعيدة بما فيه الكفاية وتلك التموجات في غاية الصغر، إذ لا يتعدى طول الموجة جزءا من الألف من قطر البروتون في نواة الذرة.

 

وبفضل جهود العلماء منذ الثمانينيات من القرن الماضي، تمكنوا من إقناع بعض الحكومات لاستثمار ملايين الدولارات في مراصد تستشعر الموجات الثقالية رغم صغرها الشديد. ويمثل برنامجا "ليغو" الأمريكي و"فيرغو" الأوروبي نتيجة لتلك الجهود. يتعلق الأمر بثلاثة مراصد. اثنان منها في ولايتي لويزيانا وواشنطن الأمريكيتين تابعان لمشروع "ليغو". والمرصد الثالث متواجد في أوروبا قرب مدينة بيزا الإيطالية وتابع لمشروع "فيرغو" الفرنسي-الإيطالي.

 

وفاز ثلاثة علماء أمريكيين، وهم باري باريش وكيب ثورن وراينر فايس، بجائزة نوبل للفيزياء للعام 2017 تكريما لبحوثهم حول الموجات الثقالية، تكريما "لمساهماتهم الحاسمة في مرصد ليغو" في تثبيت عملي للتنبؤات النظرية لآينشتاين، وهو اكتشاف "غيّر العالم" بحسب الأكاديمية السويدية التي تمنح الجائزة.