من يريد الأمن عليه بالنووي.. لماذا لا يجرؤ ترامب على ضرب بيونغ يانغ؟

الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، يقف حائراً أمام مناوشات رئيس كوريا الشمالية، كيم يونغ أون، والذي يفاجئنا كل يوم إما باختبار صاروخ أو بتجربة نووية. حفيد كيم إيل سونغ يعرف أنه على طريق الجبابرة ولا ينقصه إلا بضع خطوات ليتعامل بالند مع أمريكا، مستنداً على إدارة الصراع بمفهوم تجنب الحرب.

خيار شمشون

كيم يونغ أون لا يهتم بتهديدات أقوي قوة علي الإطلاق والسر يكمن في ما يسميه علماء الحروب "بخيار شمشون"، المبني علي مفهوم الانتقام واسع النطاق بالأسلحة النووية كآخر الحلول. ومن هنا ولد مفهوم الردع النووي الذي بدأ يرتديه كيم يونغ أون، إذ يضع بلاده على قائمة الدول التي لا يجرؤ أحد علي مهاجمتها.

لا أحد ينكر قدرات كوريا النووية منذ بداية الألفية الثالثة، ومنذ أن أدار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ظهره وأغمض عيناه ثم وضع السبابة في أذنيه وأعلن على الملأ، في عام 2003، أن الخطر، كل الخطر، يتمركز في بغداد. حينها كان كيم يونغ إيل بعد أبيه كيم إيل سونغ يمشي بخطي آمنة علي طريق السلاح النووي متأكداً، في ذلك الحين، أن الرئيس الأمريكي الثالث والأربعين سوف ينتقم لأبيه جورج بوش الأب. حينها أيضاُ كان العالم كله متأكدا من أن بوش سيتناسى كوريا الشمالية وينوي توجيه ضربه قاضية في وجه صدام حسين.

في مطلع هذا القرن كان المطلعون على خبايا الأمور ينصحون صدام بالانصياع للتفتيش الدولي. ولكن النظام آنذاك منعته من رؤية الأمور بعقلانية. حينها أيضاُ كان الاستيلاء على نفط أحد الدول المنتجة في منطقة الشرق الأوسط على رأس أولويات بوش وإدارته التي بنت دوافع الحرب على 935 كذبة لم يصدقها أحد.

ومن الرافضين لمبدأ الحرب عالمياُ وقف الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك، متبوعاُ بالمستشار الألماني غيرهارد شرودر. ففي عام 2003، بدأت كوريا الشمالية أول خطوة على طريق التجارب النووية وكان بوش الابن يتبع أول مراحل سياسة إدارته لوضع دول الشرق الأوسط على طريق عدم الاستقرار والفوضى علماُ بأن بعض من العسكريين في الجيش الأمريكي قد حاول منع الرئيس من إعلان الحرب على العراق.

الصندوق الأسود

أسلحة الدمار الشامل، وبالأخص السلاح النووي، تكسب من يمتلكها عقلانية لا مثيل لها في اتخاذ قرارات الحروب ولا يعرف فك شفرة تأثيرها في العلاقات الدولية إلا من يمتلكها. ولذلك تسعي كوريا الشمالية، في سباق مع الزمن، إلي امتلاكها لردع إدارة الرئيس ترامب من اتخاذ أي قرار في هذا الاتجاه. أما من ليس لديه هذه الأسلحة فلا يعرف فك شفرات هذا الصندوق الأسود الذي يحتوي على آليات وأدوات التعامل مع اسرار القرارات التي تتخذها دول الترسانات النووية.

ولذلك خسر العراق واندلعت الحرب ضد بغداد في 2003 لأن صدام حسين لم يكن لديه الهاديات السياسية التي تساعده على اتخاذ القرار الصحيح أمام محاولات بوش الابن بمساعدة توني بلير، في لندن، لإبعاد العراق من دائرة الدول المستقرة وخلق مناخ الفوضى لأجيال عدة.

وخلافا عن قرارات دول التعددية. فقرارات اللاعب الذي يحوذ على السلاح النووي ترتكز علي وعيه للخراب والدمار الذي تتركه القنبلة النووية. والمثال على ذلك هيروشيما وناكازاكي في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية.

تجربة كوريا الشمالية النووية السادسة، والتي تمت بنجاح، تضفي حول كيم يونغ أون حصانة يعرف تفسيرها مالكي السلاح النووي مثل أمريكا، فرنسا وبريطانيا دولياُ أو إقليمياُ مثل الباكستان أو الهند. فاختبار بيونغ يانغ قنبلة هيدروجينية ينبئ بدخول كوريا الشمالية في دائرة الحصانة ضد أي محاولة، ولو ضئيلة، من قبل الإدارة الأمريكية ويردع دونالد ترامب ويحثه على عدم التفكير في استخدام القوة لأن القنبلة الهيدروجينية هي أكثر قوة بعدة مرات من القنبلة النووية.

ويعرف الأمريكيون في دوائر القرار السياسي أن كيم يونغ أون لا يتردد ولو لوهلة في تذكير الإدارة الأمريكية بأنه قادر علي ارسال صواريخه فوق رأس من يهدده وخاصة القواعد الأمريكية في المحيطين الهادي والهندي ويذهب إلي أبعد من ذلك حين يهدد اليابان، التي ذاقت مرارة القنبلة النووية الأمريكية، وكذلك يهدد كوريا الجنوبية وكل مصالح أمريكا في آسيا.

مثلث الأقوياء

العلاقات الدولية ستعرف تغيرات جذرية فيما يخص مثلث الأقوياء بين واشنطن وبكين وموسكو. ففي المنظومة الجديدة، وبعد أن فقدت أمريكا دورها كشرطي أوحد، جاء شرق آسيا بقلب موازين التأثير بين روسيا وواشنطن في حضور غير مسبوق للمارد الأصفر.

فبعد التجربة الكورية صار من الواضح صحة مقولة أصحاب مدرسة الواقعية في علوم السياسة والعلاقات الدولية التي تؤكد أنه من الأفضل أن يكون هناك أكثر ما يمكن من الدول التي تمتلك السلاح النووي لإرساء الاستقرار في العلاقات بين الدول. وستكون قدرات التهديد والضجيج الذي سيقوم به كيم يونغ أون له صداه على دول الجوار وخاصة كوريا الجنوبية. هذا الصدى يؤثر دون أدني شك على أمن شرق آسيا وخاصة اليابان.

لم يعد هناك مجال للشك في أنه يجب الآن للتعامل مع كيم يونغ أون بحذر، وبات من الواضح إن القدرات النووية لكوريا الشمالية تتقدم. إذ يجب الإشارة إلى أن ترسانة كوريا الشمالية الصاروخية تغيرت عبر العقود الماضية من صواريخ استخدمت في الحرب العالمية الثانية الى صواريخ متوسطة المدى، بإمكانها اصابة اهداف في المحيط الهادئ.

ومن المعروف أن أمريكا تحاول، دون جدوى، من الحد من انتشار هذه الصواريخ التي تسوقها بيونغ يانغ وتقوم بتصديرها وبيعها لكل من يريد الشراء. وحتى العقوبات التي تروج لها واشنطن لم ولن تلقي الترحيب في موسكو فقد رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها غير مجدية وغير فعالة.

فلماذا إذن الضجيج الذي تقوم به بيونغ يانغ؟ الإجابة على هذا السؤال جاءت في مؤتمر صحفي في ختام قمة مجموعة ال“بريكس” في الصين حيث أشار الرئيس الروسي إلى أن ما سماه تصعيد الهستيريا العسكرية بشأن برنامج كوريا الشمالية النووي. الأمور تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير لأن روسيا تتذكر دروس الماضي. ولهذا استخدم بوتين عبارة أقل ما يقال عنها إنها تهديد واضح لا غبار عليه حينما أنذر في بكين بكارثة عالمية وضحايا بشرية هائلة.

فما هي الأسلحة التي تؤدي إلى كل هذا الهلاك؟ إنه السلاح النووي. وهنا وبهذه العبارات المشفرة، بوتين يذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالعودة إلى العقلانية. ومن الجدير بالذكر أن أي دولة وضعت قدميها على طريق القنبلة النووية، لا تتراجع إلا وبيديها مفهوم الردع والحصانة ضد أي تهديد خارجي.

من يريد الأمن عليه بالنووي

المقولة اليونانية القديمة تقول: من أراد السلام فعليه بالتجهيز للحروب. والدول النووية مقتنعة بأنها لا تحارب قوة نووية أخري. ولذلك ومنذ ستينات القرن الماضي وصل عدد الدول النووية إلى الضعف. فبعد الخمس أصحاب حق الفيتو في الأمم المتحدة (أمريكا، روسيا، الصين، فرنسا وبريطانيا) دفعت دول عدة، وسراُ، الباب ودخلت على أطراف أناملها حيز الحصانة لأراضيها. والأمثلة على ذلك بلدان عدة، مثل باكستان التي، في الخفاء، حصلت على القنبلة في تسعينات القرن الماضي، للرد على قنبلة الهند.

وفي سلسلة ردود الفعل بين القوي الإقليمية فلقد حصلت الهند على القنبلة النووية، وفي الخفاء أيضاُ، للرد على تهديدات المارد الأصفر الصيني، إذ غضت واشنطن البصر عن الهند كحليف ضد الصين. وفي مسلسل أعطني النووي وغني، فالنووي يحمي الشعوب، ومعذرة للفنانة فيروز. لا ننسي أيضاُ كيف حصلت إسرائيل على السلاح النووي بمباركة إدارات أمريكية عدة في ستينات القرن الماضي.

ولقد تعلمت موسكو من الدرس فتقوم بمساعدة إيران على تطوير برنامجها للطاقة النووية. علماُ بأن كل الدول تبرر برامجها بأنها للطاقة فقط. ويعلم الخبراء بأن الفارق بين انتاج الطاقة وصناعة السلاح النووي خيط رفيع للغاية. علماُ بأن هناك دول نووية “وهمية” يمكنها صناعة السلاح النووي في مدة قصيرة مثل اليابان وألمانيا.

الرقص على إيقاع التانجو النووي

لا عجب من أن يضع بوتين كيم يونغ أون وراء ظهره ليدافع عنه ويحذر من أي رغبة أمريكية في استخدام القوة ضد كوريا الشمالية. ويري بوتين أن كوريا الشمالية ستستمر في تطوير برنامجها النووي مستخلصا الدروس من تجربة العراق وصدام حسين الذي، رغم تخليه عن أسلحة الدمار الشامل، إلا أن بلاده تعرضت للتدمير بحجة البحث عن هذه الأسلحة ثم انتهى صدام شنقا. بوتين قال إن الجميع وفي كوريا الشمالية يعرفون ويتذكرون ذلك جيدا وشدد الرئيس الروسي على أنه ما من حل للأزمة الكورية إلا عبر الدبلوماسية لأن بيونغ يانغ لن تتخلى عن برنامجها النووي حتى ولو اضطروا إلى أكل العشب.

كيم يونغ أون يعرف كيف يتعامل مع واشنطن ويرهق الإدارات الأمريكية، منذ سنوات، بقدرته على المفاجئة والضجيج بالتهديد المستمر ورغبته في أن يعرف العالم كله بأن لديه، من دون أدني شك، السلاح النووي.

بيونغ يانغ تتكئ على مبدأ العقلانية الذي يؤدي إلى الردع النووي وعدم الانجراف في اي عمل عسكري ضد قوة نووية وتدرك أيضا حظها في الاستناد على دعم بكين وموسكو في كل الحالات. وهاتين العاصمتين تقفان ضد أي محاولة أمريكية للتضييق على كوريا الشمالية بقرارات في مجلس الأمن الدولي ولدي الأمم المتحدة.

وليس من العدم حين صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن العلاقات الدولية تشبه رقص التانغو، الذي يحتاج لإثنين وأن الشركاء الأمريكيون يؤدون مرة تلو الأخرى رقصة البريك دانس بشكل انفرادي.

فبعد التجربة النووية الكورية، تستطيع موسكو إجبار واشنطن بأن تترك البريك دانس وترقص على إيقاع التانغو النووي الذي يقوده كيم يونغ أون والتي كتبها جده كيم إيل سونغ.

*محمد عبد العظيم: دكتور في العلوم السياسية والعلاقات الدولية/ ليون-فرنسا
متخصص في العلاقات الدولية، والشرق الأوسط. صدر له العديد من المؤلفات حول الأسلحة النووية ودورها في الحروب بين إسرائيل وجيرانها، وحول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.