معسول الثنايا جابر رزق

 

- إلى خالد الرويشان -

صحوت من النوم مشغولاً بجابر رزق ، طافت بروحي بعض قصائده التي يشدو بها المسمعون والفنانون ، " رب حسن المختم " ، " يا من حباك الله " ، " يا منجي " ..

ستكون لي قصة مع جابر رزق " 1842- 1905م " فهو دون شك على رأس قائمة السماع والغناء في تاريخ اليمن كله ، وهو بتكوينه الإبداعي والثقافي ، وعبقريته الفنية ، وصوفيته المميزة .. وروحه الشفافة لابد أن يكون دواءً لأرواحنا المشروخة اليوم بأوجاع الحاضر ومآسيه ..
،،،

ولد جابر رزق ونشأ في قرية القابل - وادي (ظهر) الضاحية الشمالية الغربية لمدينة صنعاء ، بدأ ممارسة فنه في صنعاء، لكنه تعرض لبعض المضايقات من بعض المتعصبين ضد الغناء فانتقل إلى الحديدة وهناك احتضنه أحد المناصب الأهدليين " عبد الباري الأهدل " موجها دفة إبداعه صوب السماع الصوفي ، فتفجرت مواهبه الاستثنائية ومتح شعره من النور الالهي ، دار فوق دوران سابقيه في الحضرة المحمدية الشريفة وتغنى بالصالحين فيما هو يسلب الألباب والعقول بغزله الرمزي وحكمته المضيئة وتضرعاته.الذائعة الصيت ..
،،،

لم يترك جابر رزق رافداً من روافد الابداع يمكن أن تستفيد منه الحانه دون أن يرتاده ، استفاد من تراث الحميني الغني بالأشكال والمفردة الغنائية الراقية الشفيفة من أول ابن حنكاش وابن فليتة والمزاح والسودي وحتى ابن شرف الدين والعيدروس وحاتم الأهدل والعنسي والآنسيين واستفاد من إيقاعات الموروث الشعبي حد أنه غنى على طريقة " مبارك بكير شاعر تهامة الأسطوري " كما استفاد من الروافد الفنية الوافدة إلى اليمن .. وانعكس ذلك على تجربته فتنوع الشكل وتجددت الرؤية واغتنى المعنى ..

ومع حضور العبقرية الفارق في فنه وامتلاكه روحاً وإحساساً نادرين في دنيا الفن تمكن جابر رزق من وضع بصمته على الغناء في جميع انحاء اليمن دون استثناء ..
،،،

في نسخة من كتابه "زهر البستان في الغريب من الألحان" عثر عليها في مكتبة العلامة عبدالله حسين قاصرة الأهدل بالمراوعة. يورد جابر رزق في مقدمته عددا ً من مؤلفاته "زهر البستان في المخترح من الألحان" ،"مستقطر النبات في الباقيات الصالحات" ، "كنز المخلصين لسعادة الدارين " ، " الذخيرة الكبرى في مدح أهل البشرى" . ، " الفتوحات الوهبية في نظم السيرة" ، " وروائح الأنفاس المحمدية في جامع المواهب الصمدية " ، " سجع حمام القصور في المنظوم والمنثور" ، " قلائد الأبكار الحميني" وهي كلها مفقودة حيث لم يبق من تراثه إلا " زهر البستان ي الغريب من الألحان " وهذه كارثة فنية وأدبية يستحيل أن تمر على أمة من الأمم بصمت وتجاهل كما مرّت علينا .
،،،

اشتغل الأديب الراحل عبد الله الرديني - رحمه الله - على " زهر البستان في الغريب من الألحان" ردحا طويلا من الزمن حتى أخرجه وهو اشتغال يستحق التحية والتقدير ، غير أن تراث جابر رزق يحتاج إلى مجموعة مشتغلين عليه فيهم الفنان الملحن وفيهم الباحث الأدبي وفيهم الدارس للثقافة والمجتمع و فيهم المؤرخ ...
،،،

ذات صباح من فبراير عام 2004م كان الأستاذ خالد الرويشان -وزير الثقافة آنذاك - يحتفي بمشاركة محافظة لحج في فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية .. حين اعتلى المسرح أمير عبدلي من لحج في الرابعة والتسعين من عمره حسب ما صرح ثم قال بالنص " لم تكن لحج تعرف الغناء فبدأ الأمير يستضيف جابر رزق ثلاثة أشهر كل عام .. وما أدركنا إلا ولحج كلها قد خشعت للغناء " كنا أنا وصديقي الشاعر أحمد السلامي نجلس متجاورين فتبادلنا نظرة دهشة قبل أن أسجل تلك العبارة الرائعة في دفتري..
،،،

قل من الفنانين من لم يغن لجابر رزق ، أما إذا أتينا إلى المسمعين " المنشدين " فيستحيل أن تكون لهم حياة إبداعية بعيداً عن الحانه العجيبة .. و أجمل تجربة معاصرة مع فن جابر رزق تلك التي قدمها في ثمانينيات القرن الماضي الفنانان جابر علي أحمد ومحمد الحلبي في تعاونهما المشهور آنذاك.
،،،

ولم يقتصر تأثير جابر رزق على المغنين والمسمعين فقد خلق ابداعه ووجوده الحياتي حركة في الابداع غير عادية وهناك عدد غير قليل من الشعراء تأثروا به ، بل ذابت تجاربهم في تجربته إلى حد جعل رواة الشعر ينسبون أشعارهم إليه ويمكن التمثيل لذلك بتجربتين شعريتين أولاهما أحمد ناصر شيخ من زبيد وثانيتهما الفقيه حباجر من اللحية وقد تلاشت كلتا التجربتين في تجربة جابر رزق الغير عادية .
،،،

سأنهي هذه الوقفة القصيرة مع جابر رزق بأمل أن تنتهي محنة اليمن وأن نجد أنفسنا يوماً في مهرجان كبير لجابر رزق يشارك فيه أهل الفن ويشارك فيه أهل الدراسة والبحث في جو يشبه الأجواء التي كان يصنعها لنا الرويشان ...
،،،

أترككم مع جابر رزق وهذا النص البديغ :

يامن حباك الله تقبل من تعذّر واعتــــرفْ *** يامن يقيناً لا يؤاخذ من هفــا
صلى عليك الله ياعالي الشرف

حُماتك الأنصار منهم سائر الروم ارتجف *** هم خزرجٌ والأوس أرباب الوفا
مالموت إلا في مواقفهم وقف

قولوا لمعسول الثنايا ماعلى الدنيا أسف*** لا يُذكر الإنسان إلا بالوفـــا
قف هاهنا وانظر إلى من قد سلف

كمثلما أوقفتني محتار في بيت التلف *** وقوف مسكين ذليل أوقفا
إن رام أن يسعى إلى المسعى وقف

ومن أساء أحسن إليه كل من يحسن يصف *** وكن حليما لاتؤاخذ من هفا
صبر جميل لايعرف من عرف

لو لا مكان الخير كان الدر يوزن بالصدف *** فكل ذي عقل له قولي كفى
وكل مظلوم له الحق انتصف

ظلمتني يابدر منك البدر إجلالا كسف *** والله ماأنصفت فيمن أنصفا
صب يصب الدمع من وسط الغرف

خالفته خالفته فاحكم بعدل أو بشف *** واصنع به ماشئت والقصد الصفا
فإن صافي القلب قطعا لايخف

ياغصن في بستان قلبي كلما ماس انعطف *** أحسن إلى عبد مسيء أسرفا
ما أحسن الإحسان من بيت الشرف

علمتني علما ومن قد قال قولا اختلف *** لو أنه للعلم يوما شرفا
يمسي حليف الأرض من بعد الشرف

ياحالي الأعطاف والأطراف من أي طرف *** تقبيل هذا الطرف ليلا إن غفا
لايعرف المعروف إلا من عرف

من حب إنسانا فمن كيد الأعادي لا يخف *** تحبني جهرا وتبغضني خفا
فما على ذا الحب ياسيدي أسف

وإنما أمر المحبة يامنى قلبي صدف *** وأعظم الأشياء أحوال الجفا
وإنما المملوك أخطأ واعترف

لا كف لي كف ولا دمع من الأجفان جف *** فلا أرى لي غير آيات الشفا
حقا شفاء والذي نال الشرف

عند أناس يوم أحدٍ خلفوا مع من خلف *** عنهم سيغني الله قال المصطفى
وأصبحوا بعد التخلف في أسف

أنصاره قوم أولي بطش إذا الهاتف هتف *** هم خزرج والأوس أصحاب الوفا
جنابهم بالعز والنعما يحف